رأي

هل يُصلِح المُزور ما أفسده الإِنقلابي؟!

قلم: عبد المنعم سليمان

أخيرًا، حسم قائد الجيش الانقلابي النزاع حول منصب رئيس وزراء سلطة الأمر الواقع التي يديرها من بورتسودان، بتعيين كامل إدريس عليه؛ وهذا حقه، ليس وفقًا لرأيي الشخصي، فأنا لم أعترف به بالأمس حتى أعترف به اليوم، ولم يكن رئيسًا بالنسبة لي في أي يوم من الأيام. وقد كتبت مقالًا بهذا الخصوص من قلب الخرطوم في صحيفة الديمقراطي، نهاية عام 2020، بعنوان: (لست رئيسي)، أثار حنقه وغضبه، وهو اليوم قد زاد طينة بلّة، وجرت مياه كثيرة تحت جسور خيانته!

الأغرب أنني، عندما تقابلت معه بعد نشر المقال، قال لي بوثوقية أحسده عليها: إنني أتوهم أشياء ليست حقيقية، وإنه لا يسعى لأن يصبح رئيسًا، لا عليّ ولا على أي أحد! ولكن للكذب حدود كما للصبر، فما لبث أن قام بانقلابه المشؤوم الذي فضح كذبه؛ فقتل شبابنا، ونكّل بنا، وحبس حريتنا، وبهدلنا، وبعثرنا في كل وادٍ، قبل حرب كيزانه التي قضت على الأخضر واليابس في بلادنا. كل ذلك لكي يصل إلى السلطة، التي أنكر سعيه إليها، فيُؤسّس حكمه العضوض، الذي أتى بكامل إدريس ليُكمل به ديكوره! والمفارقة أن كليهما – كلٌّ على حدة – مهووس ظلّ يلهث سعيًا خلف الحكم، فكامل هذا لم يترك بشيرًا أو نذيرًا أو برهانًا إلا وطرق بابه، عارضًا نفسه عليه!

لست مشغولًا بمسرحيات البرهان، ولا يوجد من يخدعني مرتين، ولستُ خِبًّا، ولا الخِبُّ يَخدعُني، كما قال الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، وقد مددت له يدي مفتوحة لكي لا تمتد يداه للخوض في دماء السودانيين من أجل سلطة، لو دامت لبشيره لما آلت إليه، فعضّ يدي الممدودة حينها، وحطّم قلوب السودانيين وآمالهم وأحلامهم البسيطة بالعيش أحرار في ظل وطن أكثر إنسانية وأقل عهرًا! ليس فيه كيزان أو برهان.

أما الذين هاجوا وماجوا أمس من بطانته، وحلفائه، وكيزانه، وشركائه في الانقلاب والحرب، متذمّرين من قرار تعيينه لكامل إدريس، وانفراده بقرارات تعيين وإقالة الوزراء والمسؤولين، فهؤلاء ينبغي أن يعلموا أنهم من دعموا انقلابه، وهم – لا غيرهم – من وافقوا وبصموا على التعديلات التي أجراها الرجل على وثيقة الشعب الدستورية التي توافقنا عليها بالصبر، وانقلب عليها بالدم، ومنح نفسه بموجبها كل هذه الصلاحيات… ففيمَ هم غاضبون؟!

إن المادة (12 – أ) من تعديل وثيقة البرهان غير الدستورية، التي وافقت عليها مكونات تحالف بورتسودان وبصمت عليها بالعشرة، تنصّ على أن لرئيس مجلس السيادة، وهو (البرهان)، حق تعيين وإعفاء رئيس الوزراء بعد توصية من السلطة التشريعية. وهذه – أي السلطة التشريعية – هي (البرهان) نفسه! كما تنص المادة (15 – 1) على أن رئيس الوزراء هو من يعيّن الوزراء، على ألا يزيد عددهم عن 26 وزيرًا، ويُشترط أن يوافق عليهم رئيس مجلس السيادة، الذي هو (البرهان)، بشرط ألا يُمسّ بحصة الأطراف الموقعة على اتفاق جوبا. لكن على هذه الأطراف أن تختار الوزراء الممثلين لها في الوزارة بالتشاور مع البرهان، سواء كانوا ذوي كفاءة أو أصحاب عاهات – كما هو ديدنهم!

كذلك تنص وثيقة البرهان (اللادستورية) على أنه ليس لرئيس الوزراء الحق في تسمية وزيري الدفاع والداخلية، فذلك حقٌّ حصري لصاحب الوثيقة (البرهان)، وأن رئيس الوزراء وطاقمه مُساءلون أمام السلطة التشريعية – وهي البرهان، لا غيره! فهو من يحاسبهم، ويعيّنهم، ويقيلهم، كما نصّت المادة (15 – 2).

أما المادة (16 – ج) فتنص على أن مجلس السيادة (البرهان) هو المسؤول عن تعيين وإعفاء الوزراء بتوصية من رئيس الوزراء، بمعنى أنه يرفع التوصية، والقرار النهائي يعود لـ(البرهان) فقط!

ولتلك الأسباب، التي تعود إلى الخلل البنيوي في وثيقة البرهان، التي وافقت عليها المكونات الديكورية لسلطة بورتسودان، فللرجل حق “دستوري” في تعيين كامل إدريس أو إدريس كامل كما يشاء، فلماذا يغضب حلفاؤه وأصدقاؤه، ولا ينفكّون يتحدثون عن رئيس رئيس وزراء سلطته الجديد الثمانيني، الذي أنفق نصف عمره في التزوير من أجل أن يصل إلى هذه المحطة البائسة؟!

نعم، هو مزوّر وقميء وفاسد، زوّر شهادة ميلاده، بل هو أكثر من ذلك؛ فقد تورّط في فضائح مالية وإدارية أكبر بكثير من قصة تزوير شهادة الميلاد. وقد كشفت تحقيقات سويسرية – بحسب شبكة Fox News – بدأت عام 2004، عن مدفوعات تتراوح بين 3 إلى 4 ملايين دولار من متعهدي المنظمة العالمية للملكية الفكرية (ويبو)، التي كان يرأسها إدريس، إلى رجل أعمال غاني يُدعى مايكل ويلسون، والذي قام بدوره بتحويل مئات الآلاف من الدولارات إلى حساب مصرفي سويسري يخص أحد مساعدي كامل إدريس في الويبو، يُدعى “خميس”. ولا تزال قضية “ويلسون” مفتوحة. وقد أُثيرت تساؤلات حول شراء إدريس فيلّا في ضواحي جنيف، حيث شارك مدير قسم المباني في (ويبو) بتركيب مسبح، سدّد إدريس ثمنه نقدًا ! وهذا أمر مستغرَب جدًا في سويسرا.

هذه الدوامة من الاتهامات أدّت إلى مراجعة خارجية للمنظمة في عام 2005، أجرتها شركة الاستشارات (إرنست ويونغ)، وأشارت فيها إلى “بعض مواطن الضعف في الإدارة” التي “قد تؤدي إلى ارتكاب مخالفات”. وقد بدا واضحًا أن المنظمة لا تريد إدانته حتى لا تُدين نفسها بتسهيل الفساد، فتخسر سمعتها، وميزانيها التي تبلغ 200 مليون دولار سنوياً، تأتي كلها من الأمم المتحدة، لذلك لجأت لتخييره بين تحويل التحقيق من تحقيق إداري داخلي إلى تحقيق قضائي، أو تقديم استقالته؛ فاستقال في 2008 قبل إكمال فترته بعام، ما اعتُبر وقتها بمثابة اعتراف بالذنب.

لكن دعكم عن هذا، فالرجل الثمانيني، الذي حفيت قدماه لينال رئاسة مجلس الوزراء، ليس بعيدًا عن تحالف بورتسودان الذي يدير سلطة الأمر الواقع. فقد قدم نفسه من قبل، بعد انقلاب البرهان على حكومة الشعب في 25 أكتوبر 2021، على أساس أنه المخلّص للانقلابيين والمخاصِم للشعب السوداني. وبالتالي، فإنه – مثل أيتام بورتسودان – يتحمّل وزر هذه الحرب. وهذا ينطبق على كل من شارك أو دعم الانقلاب، الذي أنتج هذه الحرب اللعينة وأسفر عن سلطة الموز القائمة حاليًا، والتي ما فتئت تقدم لنا فواصل من الدراما على خشبة مسرح بورتسودان، ولن يكون تعيين كامل إدريس نهاية هذه الدراما، بل سنشهد جميعنا عروضًا شيّقة في الأيام القليلة المقبلة.

لقد التقى عجوز فاسد ومزوّر بجنرال انقلابي دموي حالم، ووافق شنٌّ طبقة!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!