رأي

 بين الجَغِم والبلّ: خرائط الموت التي ترسمها الجبهة الإسلامية على أجسادنا

بقلم: إبراهيم برسي

في بلادٍ تكسّرت فيها البوصلات، ولم يتبقَّ للناس سوى البكاء على ما لا يُبكى عليه، وجدنا أنفسنا في زمنٍ تُحكمه مفردتان فقط: *“الجَغِم والبلّ”*. ليستا مجازًا، بل تقنية للقتل الشعبي، تُمارَس في وضح النهار، ويباركها *العقل المغسول* تحت إيقاع أناشيد الحرب.

*”الجَغِم”* لم يعد فعلاً بدائيًا لشخص يبتلع ما ليس له، بل تحوّل إلى *ماكينة مؤسسية تلتهم الذهب، والنفط، والموتى، وتُنتج بلاغات وفتاوى.*

أما *”البلّ”*، فقد صار طقسًا شعبيًا لإضفاء الشرعية على هذا *الجشع*. كلمة تُقال بصوت خافت، لكنها تحمل في طيّاتها استسلامًا جماعيًا. كأنك تقول: دع الأمر للقدر، *فالعدو دائمًا هو الآخر، والحرب دائمًا هي الحل.*

تقول عالمة النفس الفرنسية ماري فرانس هيريجوين:

*“الأنظمة السلطوية لا تحتاج لإقناعك، بل فقط لإرباكك، لتخلق مساحة ذهنية تُمكِّنها من غرس أفكارها كحقائق.”*

وهذا بالضبط ما فعلته *الجبهة الإسلامية* حين تسلّلت إلى المؤسسة العسكرية، لا كضيف، بل *كمضيفٍ* أعاد تعريف معنى *الوطن، والعدو، والموت.*

في *بورتسودان*، تُدار الدولة من *سكنة عسكرية*، ويُحكم البلد عبر *فتاوى القهاوي*.

في *نيالا*، يُدفن الموتى دون أسماء.

في *الفاشر*، صارت *المقابر* أكبر من المدارس.

في *أم درمان*، تُخفي العائلات أبناءها لا من العدو، بل من *الجيش*.

ولفهم ما نحن فيه، لا بد أن نتذكّر ما حدث في *رواندا* عام *1994*.

حينها، لم يكن السلاح هو المشكلة، بل الكلمة. في راديو *“ميل كولين”*، كانت الأغاني الشعبية تُغنّى، ثم تتبعها دعوة صريحة:

*“اقطعوا التوتسي كالأنشاب.”*

هكذا تبدأ المجازر: بمصطلحات تبدو عفوية، بعبارات يُردّدها الناس دون إدراك، *ثم ينفجر العنف.*

*“بلّ بس”*، اليوم، تُشبه تمامًا تلك العبارات. تُفتح بها أبواب الجحيم، وتُشرعن بها مجازر لا تُشبه المجازر، بل تُشبه النشيد الوطني بصيغة جنائزية.

يقول أنطونيو غرامشي:

*“الهيمنة لا تتحقق بالعنف وحده، بل بالموافقة الصامتة للمقهورين.”*

وهذه الموافقة هي ما تفعله الجبهة الإسلامية كل يوم، حين تحوّل المواطن إلى *“متلقٍ*”، ثم إلى *“مُبرِّر”*، ثم إلى *“جلّاد”*، باسم الدولة أو الدين أو القبيلة.

أما الذين يجغمون بالفعل، فهم ليسوا على الجبهات، بل في *البنوك*، في *دبي*، في *أنقرة*، في *الدوحة*، وفي *القاهرة*.

*يجغمون العقود، والشركات، والذهب، والمستقبل.*

يحرقون البلاد، ثم يتهمون المواطن بأنه لم *“يبلّ بما فيه الكفاية”*.

هل هذا وطنٌ أم مسرح عمليات؟

هل هذه حربٌ أم إعادة تموضع للجبهة تحت رايات جديدة؟

*هل ما زلنا بشرًا، أم مجرّد وقود بين “الجَغِم والبلّ”؟*

لكننا نعرف.

نعرف أن الجبهة لا تحارب لتنتصر، بل لتحكم.

وأن المواطن لا يموت فقط، بل يُعاد إنتاجه كأداة للقتل.

نعرف أن *“الجَغِم”* صار مصيرًا، و *”البلّ”* صار عقيدة.

لكننا، رغم كل شيء، نعرف.

*ومن يعرف، لا ينجو بالمعرفة… بل يُساق بها إلى النفي.*

أشد أنواع الغسيل دموية، ليس ذاك الذي يُبيّض القميص، بل الذي يُغطّي الجريمة بلون الراية.

وحين تتدفق الأكاذيب من الشاشات إلى الدماغ، *يتحوّل المواطن إلى جندي دون أن يرتدي الزي العسكري.*

يضحّي بابنه، ويصفّق لمن نهب راتبه، ويقولها دون تفكير:

*“بلّ بس… نحنا في معركة وجود وكرامة.”*

تستعيد ذاكرتنا نموذج *سيراليون*، حيث تحوّل الأطفال إلى قتلة باسم “الوطن”.

تقول الباحثة الكندية نومي كلاين:

*“حين يُعاد تعريف العنف كضرورة أخلاقية، تنهار البنية النفسية للإنسان، ويصبح القتل فعلَ طمأنينة.”*

وهذا ما نراه:

مواطنون يتعاملون مع الحرب كأنها زواج مقدّس، ومع الموت كأنه استثمار مضمون في سوق الوطنية.

في *“الخوي والنهود”*، لم يعد الناس يتساءلون عمّن هو على حق، بل عمّن لا يزال على قيد الحياة.

في *“دنقلا وكسلا”*، لا يُسأل الأب عن حلم ابنه، بل عن موقعه على الخارطة:

*في الجيش؟ في الدعم؟ أم في المقابر؟*

*السودان اليوم ليس بلدًا، بل سجن مفتوح يدور فيه الحارس والضحية في حلقة “بلّ وجَغِم”، بين رصاصتين، ورايتين، وبيانين.*

نحن الذين كُتب علينا أن نعيش بين *“الجَغِم والبلّ”*، لا نملك حتى *ترف الصمت.*

لأن الصمت نفسه صار *مشاركة في الجريمة.*

لأن *“البلّ”* اليوم يعني أنك قبلت أن تُمحى،

و *”الجَغِم”* يعني أنك صرت جزءًا من ماكينة المحو.

*وحدهم الذين لا يبلّون ولا يجغمون، من يكتبون بأجسادهم معنى الوطن.*

أما الباقون، فقد اختاروا شكلهم في الجنازة: *بين قاتلٍ يبتسم، ومبرّرٍ يبرّر، وجثةٍ تصفّق في الغياب.*

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!