
في واحدة من أحلك لحظات التاريخ السوداني المعاصر، سُجلت مجزرة الحمادي بمداد أسود كثيف، لتكشف من جديد عن وجه قبيح لتيارات العنف التي ما زالت تسعى إلى إعادة البلاد إلى مستنقع الظلام والكراهية والدم. لقد وجّه جيش الحركة الإسلامية، مدعوماً بكتائب “البراءون” ومجموعة من الحركات المتحالفة، سلاحه هذه المرة نحو صدور الأبرياء في قرية الحمادي، بعد أن فشل في اجتياح مدن الخوي والنهود، ليصبّ جام حقده على منطقة آمنة لا علاقة لها بساحات القتال.
ما جرى في الحمادي لم يكن معركة، بل كان عملاً همجياً منزوع الكرامة والأخلاق، قوامه الغدر والتصفية والاستباحة، استُخدمت فيه نيران الأسلحة الفتاكة لإبادة العزّل من الأطفال والنساء والشيوخ، ممن لا ذنب لهم سوى أنهم وجدوا أنفسهم في مرمى أجندة مريضة ترى في القتل وسيلة للحكم، وفي الدم طريقاً لاستعادة مجد مفقود لن يعود.
لقد انكشفت نوايا ”جيش الحركة الإسلامية” مجدداً، فلم يعد الحديث عن مشروع سياسي، بل عن آلة قتل جماعي، تُدار بعقلية انتقامية، تحاول فرض وجودها من خلال إذلال المجتمع وتدمير نسيجه وفرض هيبة وهمية على الأطراف الضعيفة. في الحمادي، لم يكن القتال بين خصوم مسلحين، بل بين وحشية منظّمة وسكان مسالمين، بين حقد أيديولوجي وأجساد بريئة لم تعرف غير الزراعة والرعي.
إن استهداف منطقة الحمادي يعكس سقوطاً أخلاقياً مروعاً، ليس فقط في ميزان السياسة، بل في ميزان الإنسانية ذاته. لا يمكن لأي ذي ضمير أن يرى جثامين الأطفال الممزقة، وصراخ الثكالى، وخراب الديار، دون أن يشعر بأن هذه الجريمة وصمة عار على جبين من ارتكبها، ومن صمت عنها، ومن تواطأ مع أدواتها.
شعبنا، الذي خبر كل ألوان القهر، لن ينسى، ولن يغفر. لن تمر مجازر الحمادي كما مرت غيرها، لأن دماء الأطفال لا تسيل عبثاً، ولأن الذاكرة الشعبية السودانية، وإن أرهقها وجع السنين، قادرة على التوثيق، وعلى المقاومة، وعلى استدعاء الحساب في اللحظة المناسبة.
هؤلاء القتلة المأجورون، الذين يحركهم المال والضغينة، مصيرهم مزبلة التاريخ، مهما حاولوا تزوير الحقائق أو تجميل الخراب. فالتاريخ لا يُخدع، والعدالة، وإن تأخرت، فإنها لا تموت.
من هنا، نوجّه الدعوة مجدداً إلى المجتمع الدولي، ومؤسسات العدالة الدولية، والمنظمات الحقوقية والإقليمية، لفتح تحقيق عاجل وعادل وشفاف حول جريمة الحمادي، باعتبارها واحدة من بين أخطر الانتهاكات التي طالت المدنيين منذ اندلاع الحرب في السودان. هذا التحقيق يجب ألا يكتفي بالإدانة، بل يتبع بخطوات عملية لملاحقة الجناة وتقديمهم للعدالة، ووقف آلة القتل التي تستبيح الأرواح بلا وازع.
إننا أمام لحظة فارقة، إما أن نواجه الحقيقة بشجاعة ونتحرك لوقف هذا الانهيار، أو نترك للقتلة فرصة أخرى لتكرار حمادي أخرى، وربما حماديات لا تنتهي.
فليكن أطفال الحمادي آخر الدموع التي تسيل على خدود التاريخ، لا بدايته.