رأي

 عميق أيها الناجي ويا حليل الفكي الجاب ليكم العرقي

بقلم: منال علي محمود 

في مشهد مُعاد من (مسرحية سواقة الخلا) التي يتقنها الإسلامويون منذ عقود، وقف الناجي مصطفى يخطب في جمعٍ معلوم الأجندة، يسمّيهم (المجاهدين والمجاهدات) ، ويصوّرهم كأنهم استفتاء شعبي حي لدعم البرهان في وجه العقوبات الأمريكية. لم يكن ذلك حشدا عفويا، بل تظاهرة مصنوعة بعناية، جلب فيها الناس تحت وطأة الحاجة، أو العصبية، أو الابتزاز الرمزي باسم الدين. التقطت الكاميرا وجوهًا مرهقة، بعضها يبحث عن الظل، وبعضها الآخر عن الخبز، بينما الناجي يجعر للمصوّر: (صوّر الناس دي) .

ثم قدّم لهم (خيارين) : إما أن يخضعوا ويقولوا (حاضر) ويقبلوا الذل، مثل دول الجوار كما قال، أو يردوا على أمريكا بـ(تحت جزمتي) .

خياران، كلاهما وُضع ليُعفي الجناة من المساءلة، ويُعيد تدوير لغة الازدراء والتحدي لستر عورة التجاوزات. لا حديث عن إصلاح، لا صوت للضحايا، لا خيار ثالث يحمل كرامة الشعب ولا كلفة الحقيقة.

واللافت أن كل هذه الخطب الجوفاء تُلقى من ولايات آمنة، من مسارح محروسة، حيث لا صوت للمدافع ولا صفير للرصاص، بينما الخراب يُعشش في المدن الأخرى. فأي وطن هذا الذي تتحدثون باسمه؟ وأي (شعب) تمثلونه إن كنتم تهربون من ميادينه الحقيقية إلى منابر محروسة بالأجهزة؟ إن كان خطابكم عميقًا حقًا، فهل عجز هذا (العمق) عن فهم أن كل أجزائه لنا وطن؟ عن رؤية معسكرات النزوح؟ عن سماع صرخات المغتصبات؟ عن شم رائحة الموت في نيالا والفاشر وكتم؟

ما يُباع هنا للمجتمع الدولي هو وهم (التفاف شعبي) حول سلطة تمعن في قهر شعبها، بينما الحقيقة أن هذا النوع من الاستعراض هو إعادة تدوير لأساليب الاستبداد التي تصنع جمهورًا بالسوط لا بالصندوق. إنها محاولة لتسويق قرار سياسي على أنه إجماع شعبي، وإرسال رسالة زائفة للعالم مفادها أن “الشعب اختار قاهره”.

إلى المجتمع الدولي: حين تفرضون عقوبات، فنحن ندرك أنها تحمل رسائل سياسية دقيقة، تستهدف المجرمين لا الشعوب. لكن في السودان، هناك من يختزلها عمدًا في خطاب غوغائي، ثم يعرض ذلك على أنه (رد شعبي). هذا هو الخطاب الذي يتم تصويره وتلتقطه بعض القنوات التي في فمها ماء من عرقي الفكي، فتظهره على أنه موقف وطني. فلا تكونوا بضحالة “عمق” الناجي، الفكي الجاب ليكم العرقي.

الرد الذي قدم بالأمس، أنتم رأيتموه! لم يكن موقفاً وطنياً نابعاً من شعب واعٍ، بل عرضاً صوتياً من كتائب الحيل القديمة. لم يكن صدى لصوت الشعب، بل ضجيجاً أعد ليغطي على صمت القبور المفتوحة، والجثث في الطرقات، والملايين في معسكرات النزوح، والأمهات اللائي ينتظرن أبناءهن عند بوابات المجهول.

أما أنت، أيها الناجي، فشبهك قريب جداً من ذاك الفكي المأجور، الذي لا يعرف الفرق بين البركة والعرقي. ذاك الذي يُستدعى عند كل مصيبة ليرشّ الماء، ويقرأ التمائم، ويغش الناس بالبخور، ثم يختفي وقد خلّف وراءه أكثر مما وجد. أنت فكي السلطان، جلبت لتسكر هذا الشعب الموجوع بخطبة، وتغش وعيه بشعارات، وتغطي على الفضيحة بدخان الكلمات فقد عجزت سيقانك الهزيلة  لترفع عنك ذالك البوت فاتكأت ورميت الحمل علي جمعك المغيب.

لكننا، رغم الألم، ما زلنا نميز رائحة العرقي من مسك الحقيقة. نحن لسنا جمهورًا مستعارًا، ولسنا شعبا يساق. نحن أصحاب هذا الوطن. وسنكتب، ونشهد، ونصرخ… حتى لا يقال إن القتلة مرّوا من هنا بلا مقاومة.

manal002002@gmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!