
مقدمة: جندي في العراء وسؤال الدولة: في أحد المقاطع المصورة التي انتشرت عقب عملية تدمير قرية الخيرات بشرق النيل، يظهر جندي سوداني يرتدي زي الدولة الرسمي، ويتحدث بلهجة أبناء الهامش، بحرقة لا تخطئها عين أو أذن. يقول إنهم يسكنون هذه المنطقة منذ ثمانية عشر عامًا، ويستطرد في شهادته وقد بدا عليه الانكسار والتعب، موضحًا أنه التقى بالوالي، الذي جاء به وفد من جماعة لم تُعرف خلفياتها، ولم تُحدد هويتها، ويبدو أن قرار هدم القرية كان متخذًا سلفًا، وأن ما جرى لم يكن نتيجة إجراءات طارئة، بل مخطط مسبق لا يراعي النداءات ولا يلتفت للتظلمات.
يتابع الجندي حديثه بألم، مشيرًا إلى أنه حاول أن يشرح للوالي أن الخيرات ليست منطقة عشوائية ولا موقعًا محتلًا، بل مجتمع متكامل يقطنه بشر، لهم تاريخ وذاكرة ومساكن وحق في الحياة، لا كما يُصورون باعتبارهم “غرباء”. لكن الوالي، كما يروي، لم يصغِ، ولم يُبدِ أدنى اهتمام، ولم يتوقف ليسمع صوتًا يخرج من بين الأنقاض. وحدث الهدم كما لو كان إجراءً روتينيًا بلا ثقل، كأن البيوت ليست بيوتًا، وكأن البشر لا قيمة لهم أمام تعليمات السلطة.
في الفيديوهات المنتشرة، تظهر أنقاض البيوت المتواضعة: طوب مكسور، أثاث منزلي مسحوق، أدوات طبخ مبعثرة، وألعاب أطفال غطاها الغبار، وسط وجوه مذهولة وعيون متسعة من هول الصدمة. أطفال يقفون في العراء، وأمهات يبحثن عن بقايا متعلقات، بينما تتنقل الكاميرا على وجوه شاحبة محطمة. في وسط هذا المشهد، يظهر الجندي المنكسر في صمت موجوع، وكأنه يقول، عدت لأجد بيتي وأطفالي وبيت أمي مهدومًا، وجيراني في العراء. أو كما تقول اللقطات الخاطفة التي انتشرت بسرعة على وسائل التواصل: القرية سُوّيت بالأرض بقرار من الدولة.
كانت هذه المفارقة فادحة، بل جارحة للمنطق والعدالة: رجل يخدم في جيش الدولة، يحمل سلاحه لحمايتها، ويُرسل إلى الجبهات باسم سيادة القانون، ثم يعود إلى قريته ليكتشف أن الدولة التي يفترض أنه يدافع عنها قد هدمت منزله ومنازل أهله وجيرانه تحت ذرائع بيروقراطية باردة، تسميهم “الوجوه الغريبة”، وكأنهم نبت غريب في أرضهم، لا يُعترف بانتمائهم، ولا تُحترم مواطنتهم.
هذه الصورة ليست فقط تجسيدًا لمأساة إنسانية، بل مرآة مشروخة لواقع الدولة السودانية الحديثة: دولة تطالب بالموت في سبيلها، لكنها لا تعترف بالحياة الكريمة لمن يضحون من أجلها. تطلب الولاء، ثم تكافئه بالاقتلاع. تمنح الرتب العسكرية، ثم ترد على أصحابها بالإنكار والطرد. كما يقول الفيلسوف إيمانويل ليفيناس: “أن لا يُعترف بك فردًا، هو أن تُسلب إنسانيتك من الأساس”.
وما يزيد من فداحة المفارقة أن هذا الجندي، شأنه شأن الآلاف من أبناء الهامش، ليس مجرد فرد في منظومة عسكرية، بل هو تجسيد حيّ لانخراط أبناء الهامش في مشروع وطني لم يمنحهم يومًا نفس الحقوق التي يمنحها لمن ينتمون إلى مركز القوة والقرار. إن هذه الواقعة تختصر العلاقة الشائكة بين الدولة السودانية والمواطن المهمش: علاقة استغلال بلا اعتراف، علاقة استخدام بلا حماية، علاقة تفويض دون تمثيل، بل تُبنى على تصورات تاريخية راسخة ترى في المهمشين أدوات لا شركاء، وفي ولائهم عبئًا لا قيمة… إذ تستغلهم كموارد بشرية للدفاع عن سلطة لا تلتفت إلى مطالبهم، ولا تعترف بإنسانيتهم حتي.
من هنا، تبدأ الأسئلة الأكبر: ما معنى الدولة إذا كانت لا تحمي من يمثلها؟ ما معنى المواطنة إن كانت تُلغى بقرار إداري؟ وما جدوى القانون إن لم يكن درعًا للضعفاء؟ إن صورة الجندي المنكسر في قرية الخيرات ستبقى، ليس فقط كدليل على انتهاك، بل كإدانة كاملة لبنية لا تزال تميز بين مواطنين من الدرجة الأولى وآخرين بلا درجة ولا ملاذ.
القرية التي هُدمت: مشهد من تراجيديا سودانية مزمنة: ما جرى في قرية الخيرات لا يمكن فهمه كحادث فردي أو خطأ إداري، بل يجب تحليله ضمن تراكم طويل من اللامبالاة الرسمية والتمييز المؤسسي الذي مارسته الدولة السودانية ضد المهمشين منذ نشأتها الحديثة. لقد كانت الخيرات – كغيرها من قرى أطراف المدن- في مرمى الإهمال والتجاهل منذ عقود، إذ لم تحظَ بخدمات تعليمية ولا صحية، ولا حتى بشبكات مياه صالحة للشرب. لا توجد مدارس حكومية كافية، ولا مرافق صحية مجهزة، ولا حتى مراكز خدمات أساسية تضمن الكرامة الإنسانية، ناهيك عن الأمن السكني.
منذ الاستقلال، ظل المركز السياسي والإداري في السودان يتعامل مع سكان اطراف المدن او الاحزمة السوداء كما يسمونهم – وخاصة من ذوي الخلفيات الزراعية أو الإثنية غير العربية – كمقيمين مشروطين، لا كمواطنين كاملي الحقوق. هذه السياسة التي كرّسها التحالف غير المعلن بين الدولة الاستعمارية القديمة وخلفائها المحليين، أنتجت ما يمكن تسميته بـ “نظام الإقصاء الممنهج”، حيث يصبح الانتماء العرقي أو اللغوي أو الجغرافي مبررًا كافيًا للنفي من جسد الدولة. ومما يزيد تعقيد هذا النظام هو تغلغله في جميع مستويات الحكم، من السلطات المحلية وحتى المؤسسات السيادية، ما يجعل من الممارسات التمييزية بنية متجذرة يصعب تفكيكها دون مشروع وطني جذري.
خلاص دون تفكيك الدولة القديمة وبناء مشروع السودان الجديد:
في خضمّ حرب مدمّرة، تتكشّف جوهريّة الأزمة السودانية لا بوصفها نتيجة نزاع عابر أو صراع على السلطة كما يحلو للبعض ان يردد، بل كأزمة بنيوية في طبيعة الدولة ذاتها، التي وُلدت من رحم الاستعمار واحتكرتها نخب إثنية ومركزية ضيقة. إن ما حدث في قرية الخيرات بشرق النيل، من إزالة قسرية وتطهير اجتماعي ممنهج، ليس حدثًا استثنائيًا، بل تعبير حادّ عن عقل الدولة السودانية كما تشكّلت واستمرت منذ ما بعد الاستقلال. هذه الجريمة تمثل مرآة تكشف المدى الذي بلغته الدولة المركزية في عدائها للمواطنين المهمشين، وفي تحويلها أدوات السلطة إلى آليات للترويع والتجريف والإقصاء
ورغم أن الحرب قضت على الأخضر واليابس، إلا أن النخب المسيطرة في بورتسودان ما تزال تتوهم إمكانية الحفاظ على سلطتها عبر النهج العنصري والقمعي، مستندة إلى ذات آليات الإقصاء التي مارستها على مدى عقود، من التهميش البنيوي، إلى التجويع الممنهج، و إلى التطهير العرقي المقنّع بـ”ذرائع أمنية”.
لكن اللحظة التاريخية تفرض معادلة جديدة: السودان أمام خيارات محدودة. إما إعادة إنتاج دولة الاستعمار الداخلي بثوب جديد، أو الدخول في مسار ثوري يؤسس دولة جديدة كلياً، تقوم على الحرية، المساواة، العلمانية، اللاّمركزية، والعدالة التاريخية. لا يوجد حياد في هذه اللحظة. إما الانحياز إلى الدولة القديمة بمنظومتها العنصرية والطائفية، أو الالتزام بالمشروع الثوري الذي يسعى إلى تفكيكها وإعادة تأسيسها على أسس جديدة.
دروس من التجارب العالمية: فالاستعمار الداخلي ليس مستداماً:
إن الأنظمة التي تبني وجودها على قمع الداخل، وتصنّف بعض مواطنيها كغرباء أو “غير مرغوب فيهم”، لا تستطيع أن تحافظ على سلطتها طويلاً دون أن تواجه التفكك والانهيار. التجارب العالمية تؤكد أن الاستعمار الداخلي، كما مارسته النخب السودانية، لا يُنتج استقراراً، بل مقاومة دائمة، وحروباً متجددة، وسقوطاً أخلاقياً وسياسياً
١/ في جنوب إفريقيا، مارست دولة الأبارتايد سياسات عنصرية ممنهجة عبر قوانين مثل “قانون المناطق الجماعية”، لكنها انهارت أمام حركة مقاومة عنيدة وتحالف دولي عابر للقارات.
٢/ في غواتيمالا، لم تمنع سياسات الأرض المحروقة وقتل السكان الأصليين النظام من السقوط، بل عجّلت بانكشافه وملاحقة رموزه دولياً.
٣/ في الولايات المتحدة، من “مسيرة الدموع” إلى “مشاريع التحسين الحضري” التي استهدفت أحياء السود واللاتينيين، بقي التاريخ يفضح الطبيعة العنصرية للدولة، ويُنتج أجيالاً جديدة من المطالبين بالعدالة
٤/ في ميانمار، أدت سياسات التطهير ضد الروهينغيا إلى اتهامات دولية بالإبادة، وعزلة سياسية خانقة
٥/ وفي دارفور، جرّت سياسات النظام السوداني السابق رموزه إلى المحكمة الجنائية الدولية، دون أن تحقق استقرارًا أو انتصارًا.
الدرس واضح: لا دولة تستقر على أساس الظلم، ولا نظام يستمر إذا وُلد من رحم الإقصاء والكراهية. وما تحاوله نخب المركز المتمثلة في حكومة بورتسودان ومن يؤيدونها اليوم من تعميم الإرهاب في الخيرات وغيرها، سبق أن جُرّب في العالم، وفشل!
مشروع السودان الجديد: من المقاومة إلى التأسيس:
في ظل هذا الانهيار، فإن دور القوى الثورية، والمثقفين، وكل أصحاب الضمير الحي، لم يعد يقتصر على فضح الجرائم، بل الانخراط الفاعل في مسار تأسيسي بديل. إن ما تحتاجه البلاد ليس إصلاح مؤسسات مشوّهة، بل تفكيك الدولة القديمة بكل عنفها وبناها الرمزية والإدارية، وإعادة تأسيسها على مبادئ السودان الجديد.
مشروع السودان الجديد ليس مجرد ردّ فعل على الدولة الفاشلة، بل هو رؤية لبناء دولة بديلة، تستند إلى المبادئ التالية:
١/ الحرية الكاملة: حرية الضمير، والمعتقد، والتنظيم، والاختيار، دون وصاية سياسية أو دينية أو ثقافية
٢/ التاريخية: الاعتراف الصريح بالمظالم التاريخية، وتعويض المجتمعات المهمشة ماديًا ورمزيًا، وضمان تمثيلها الكامل في مؤسسات الدولة.
٣/ العلمانية: الفصل الكامل بين الدين والدولة، لضمان حيادية الدولة، وصون حرية المعتقد، ومنع تسييس الدين أو تدنيسه بالسلطة.
٤/ اللاّمركزية العادلة: كسر احتكار المركز، وبناء دولة متعددة الأقاليم، ذات حكم ذاتي حقيقي، تسمح للمجتمعات المحلية بإدارة شؤونها في إطار وحدة طوعية.
٥/ الحق في تقرير المصير: كحق قانوني وشعبي لأي جماعة تشعر بالإقصاء البنيوي، ويُمارس ضمن آليات سياسية وسلمية تضمن التمثيل والمشاركة.
٦/ إعادة كتابة التاريخ: لا مستقبل دون مواجهة الماضي. ويجب إعادة قراءة تاريخ السودان من منظور الهامش، لا من المركز، ومن ضحايا القمع، لا من أدواته.
٧/ اقتصاد بديل من الهامش: لا يمكن إحداث تحول دون قلب المعادلة الاقتصادية. يجب أن تكون الأولوية للاستثمار في التعليم، الصحة، والزراعة في المناطق المهمشة، بدلًا من نهب الموارد لصالح قلة مركزية طفيلية.
٨/ مواطنة متساوية بلا درجات: هوية الدولة تُبنى على أساس المواطنة، لا العرق أو اللغة أو الدين. لا “غرباء” في وطنهم.
من الخيرات إلى الوعي الثوري:
إن جريمة الخيرات تكشف بوضوح أن الدولة القديمة لم تسقط بعد، وأن مشروع الهيمنة لم يفقد أدواته بعد. لكنها، في ذات الوقت، تفتح الباب أمام وعي جديد يتجاوز الحزن، ويتحول إلى مشروع سياسي جذري.
ليس المطلوب فقط محاكمة الجناة، بل محاكمة الدولة التي أنتجتهم، وتفكيك بنيتها الأخلاقية والسياسية التي تبرر القمع باسم “الأمن”، والقتل باسم “الوطنية”، والإبادة باسم “النظام”.
إن الخيرات اليوم هي عدسة مكبرة لأزمة السودان ككل: أزمة دولة لا تعترف بمواطنيها، ولا ترى إلا لونًا واحدًا، وهوية واحدة، ووجوهًا مألوفة. وكل من خالف ذلك، يُحذَف، يُهجَّر، أو يُدفَن تحت أنقاض بيته.
اخيرا: آن أوان التغيير الثوري:
السودان لا يحتاج إلى حوار بين أطراف قديمة، بل إلى قوة تأسيسية جديدة، تُنهي منطق الحكم من المركز، وتُعيد بناء الوطن من الهامش، من المخيم، من القرية التي نُسيت في الخريطة، ومن المواطن الذي لم يُحسب يومًا في معادلة السيادة.
لا شرعية لنظام يبني سلطته على أنقاض الفقراء، ولا دولة تستحق البقاء إن لم تعترف بكامل مواطنيها. إن مشروع السودان الجديد لم يعد اختيارًا فكريًا، بل ضرورة وجودية، وكل تأخير في تبنيه، هو تأجيل لحرب قادمة.
العدالة لسكان الخيرات، والكرامة لكل المهمشين، والمستقبل لسودان جديد يُبنى لا من قصر غردون، بل من خيمة اللاجئ، ومن ضمير الثائر.
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)