
في لحظة فارقة من تاريخ السودان، سقط قناع “الوطنية الزائفة” الذي ظلّت تتغنّى به نخب المركز منذ الاستقلال، لتتكشف حقائق صادمة ظلّت مطمورة تحت ركام التعتيم والتهميش والتشويه المتعمد. الحرب التي اندلعت في أبريل لم تكن فقط صراعًا مسلحًا بين قوتين، بل كانت في عمقها لحظة صحو جماعي لسكان الهامش، الذين طالما جرى تصويرهم كمجرد أرقام على هامش دفتر الوطن.
المعادلة السكانية المختلّة: تناسل النخبة ونازحو الخطر
في الوقت الذي تحرص فيه نخب المركز – أو ما يُعرف بـ”أبناء الشريط النيلي” – على تقنين نسلهم، وضمان استقرار أبنائهم تعليمياً وصحياً، يعيش سكان الهامش واقعاً نقيضاً تماماً. يتناسلون في ظل أزمات إنسانية خانقة، دون خدمات طبية أولية، وسط معدلات إجهاض ووفيات أطفال مرتفعة، دون أن يجدوا من يهتم أو يُوثّق معاناتهم. ومع ذلك، فإن هذه الملايين صمدت، وواصلت الحياة، ودفعت أبناءها – قهرًا لا خيارًا – إلى أن يكونوا “وقودًا” في حروب لا تخصهم، ثم يُتَّهمون لاحقًا بأنهم مرتزقة وغرباء عن الوطن!
الوعي الجديد … والارتباك القديم
لقد شكّلت حرب أبريل لحظة انكشاف. خرجت الجماهير من “كهف المؤامرة” التاريخية، مدفوعة بوعي متراكم تجاه الظلم البنيوي الذي مورس ضدهم لعقود. لم تعد شعارات “الوحدة الوطنية” و”الهوية السودانوية” قادرة على التغطية على الجرائم المعنوية التي ارتُكبت باسم الدولة المركزية. فالوعي لا يُقمع، والمعلومات لم تعد حكراً على صفوة العاصمة، والكاميرات اليوم دخلت الأرياف ومعسكرات النزوح، ونقلت للعالم حقيقة الأعداد المهولة التي تم تغييبها عن التعدادات الرسمية لصالح تكريس كذبة “الأكثرية الحاكمة”
ارتباك النخب… وعودة الخطاب الاستعلائي
ما أن بدأ الهامش يرفع صوته، ويعيد تشكيل ذاته، حتى سارعت نخب المركز السياسية والعسكرية والثقافية إلى التحلّل من كل شعاراتهم الليبرالية والعلمانية وحتى الإسلامية، واصطفّوا كجبهة واحدة أمام ما اعتبروه تهديدًا وجوديًا لـ”مكتسبات الأجداد”… أجدادهم الذين كانوا في يوم ما موظفين أمناء لدى الاستعمار، أو وسطاء له.
ولأن الحقيقة صادمة، لم يجدوا تبريرًا سوى إطلاق تسميات عنصرية جديدة على هذه الكتلة البشرية: “عرب الشتات”، “المرتزقة”، “الأجانب”… وكأنما دارفور وكردفان والنيل الأزرق ليست جزءًا من جغرافيا الوطن. إنه نوع من الهلع الاجتماعي والسياسي، حين يرى المركز نفسه عاريًا أمام الواقع السكاني الذي تم إنكاره لعقود طويلة.
الإحصاء المُضلل والتهميش المنهجي
لم يكن تغييب أرقام الهامش عن التعداد السكاني محض خطأ إداري، بل هو فعل سياسي مقصود. كيف يمكن أن نصدق أن عدد سكان معسكر نازحين واحد في دارفور يفوق سكان ولاية كاملة في الشمال؟ بل كيف يُعقل أن يكون سكان عشرات المحليات والأرياف منسيين، بينما تُوجّه ميزانيات التنمية والخدمات والبنى التحتية لعواصم مختارة، ومناطق بعينها، وكأن الوطن يُختصر في ثلاث مدن!
لحظة الحقيقة: هل يكون الهامش هو الوطن القادم؟
الهامش اليوم لم يعد صامتاً، ولم يعد يقبل التبعية. الدائرة الجهنمية التي تبدأ بالفقر وتنتهي بالتجنيد الإجباري في حروب المركز، قد انكسرت. والصوت الذي خرج من معسكرات النزوح، ومن المدارس المهدّمة، ومن قُرى بلا كهرباء ولا ماء ولا طبيب، أصبح أكثر وضوحاً: نحن هنا… نحن الشعب الحقيقي الذي تم تغييبه عمداً.
هذه الحقيقة، بكل مرارتها، لن تختفي. ولن تعود عقارب الوعي إلى الوراء. لقد بدأ عصر جديد، قد لا تكتبه نخب الخرطوم، لكنه يُكتب الآن على جدران المعسكرات، وفي تغريدات الناشطين من الهامش، وفي شوارع المدن الصغيرة التي حاربت وحدها، وعلّمت وحدها، وصمدت وحدها.
السودان لن يكون بعد اليوم مركزًا بلا هامش، أو هامشًا بلا صوت
إن لم تعِ نخب المركز حقيقة التحوّل التاريخي الجاري، وإن لم تستوعب أن السودان القادم سيكون متعدد الأقطاب، ومتنوع الهوية، ومتوازن السلطة والثروة… فستجد نفسها في عزلة أخلاقية، قبل أن تكون سياسية.
الهامش لم يعد رقماً… الهامش هو الإنسان، وهو القضية، وهو الوطن الحقيقي.