د. عبدالله على إبراهيم نموذج المثقف المنحاز عرقيا والمتمرس جهويا؛ حالة انهيار منظومة القيم الأخلاقية والإنسانية (2)
د. فاطمة الزين الغالي

د. فاطمة الزين الغالي
لم يكن انهيار الدكتور عبد الله علي إبراهيم في لقاء الجزيرة محض لحظة إعلامية عابرة، بل كان تتويجًا لمسار طويل من التناقضات الفكرية والانكسارات الأخلاقية، التي ظلت تتراكم منذ سنوات، حتى بلغت ذروتها في هذه اللحظة المفصلية. فالرجل، الذي طالما قدّم نفسه بوصفه مفكرًا يساريًا، مؤمنًا بالعدالة الاجتماعية ومناهضًا للسلطة القمعية، انكشف على حقيقته كمجرد مدافع بائس عن طبقة متغولة، وعن نظام استعلائي فقد مشروعيته.
لقد بدا عبد الله في حديثه الأخير كمن لا يرى في هذه الحرب إلا أنها معركة “الجيش القومي” ضد “مليشيا عابثة”. لكنه لم يكن يتحدث عن وقائع عسكرية، بل عن بنية ذهنية تقطر بالتمركز العرقي والجهوي. لم تكن عباراته بريئة، بل مثقلة بالتاريخ الذي يحاول أن يتنكر له. فهو يعلم تمامًا أن وصف الجيش بـ”القومي” في المخيال السياسي السوداني لا يعني المؤسسة العسكرية فحسب، بل هو كناية عن مشروع السيطرة النيلية المزمن، الذي استباح بقية أقاليم السودان باسم الوطن، بينما يمارس في الواقع نوعًا من الاحتلال الداخلي.
عبد الله لم يكن جاهلًا بتاريخ السودان، بل هو من كتب عن الحزام النيلي، وعن النخبة السودانية، وعن الحركات الاجتماعية. لكنه، حين وضعت الحقيقة أمامه، لم يجد حرجًا في الانحياز لأصحاب الامتياز الطبقي والجهوي، ضد أولئك الذين دفعوا عمرهم ودماءهم في سبيل العدالة والكرامة والتمثيل المتكافئ. إنه لم يسقط فقط في مستنقع الانحياز، بل تجاوز ذلك إلى التواطؤ مع آلة القتل الرمزية، التي لا تطلق الرصاص بل تطلق الخطاب القاتل، الذي يمنح الشرعية للقتل ويمسح وجه المجرم بطلاء الوطنية.
ما يثير القلق، ليس فقط ما قاله عبد الله، بل ما لم يقله. فقد مرّ مرور الكرام على الجرائم التي ارتكبتها قوات الجيش ومليشيات الفلول المرافقة له في الأبيض وأم درمان ونيالا والكومة ومليط، واكتفى بإدانة الدعم السريع كمنظمة خارجة عن القانون، بينما يعلم – علم اليقين – أن الحرب في السودان لم تبدأ في 15 أبريل، بل هي امتداد لعنصرية تاريخية قادت إلى الإبادة الجماعية في دارفور، والتهجير القسري في جبال النوبة، والتفقير الممنهج في الشرق.
إن عبد الله، الذي كتب كثيرًا عن الديمقراطية، والتنوير، والحداثة، خان كل تلك المفردات حين صمت عن المجازر، بل سعى إلى تبريرها عبر خطاب مموه، لا يملك الشجاعة لمواجهة الجرائم، لكنه يملك الوقاحة الكافية للحديث عن وحدة الصف، وكأن الوحدة تعني أن نخضع جميعًا لحكم بندقية المركز. إنه بذلك لا يدافع عن الدولة، بل عن الامتيازات التي كانت تمنح له ولأمثاله، في ظل نظام يقتل ويشرد، لكنه يمنح للصفوة حق التنظير من أبراجهم العاجية.
وفي تناقض فج، لم يتورع عبد الله عن التباهي بماضيه اليساري، وبانتمائه التاريخي إلى تيارات العدالة الاجتماعية، وكأن الرجل نسي أو تناسى أن أول شرط للعدالة هو النزاهة الأخلاقية. إن المثقف، أيًا كان موقعه، يفقد شرعيته حين ينحاز للجاني ويتجاهل الضحية، وحين يوزع صفات القومية والوطنية وفق خارطة عرقية صامتة، تتحدث بالرمز وتقتل بالسكوت.
عبد الله علي إبراهيم لم يعد مفكرًا يساريًا، بل صار ناطقًا رسميًا باسم عقلية الإقصاء القديم. يتحدث عن الوطن، لكنه لا يعني به إلا الخرطوم والوسط النيلي. يتحدث عن الدولة، لكنه يقصد السلطة. يتحدث عن القومية، لكنه لا يرى فيها إلا ثوبًا فضفاضًا يغطي عنصرية نيلية مقيتة. فمتى كان الدفاع عن القتل القومي؟ ومتى صارت الوطنية تهمة تُمنح أو تُسحب بحسب القبيلة والمنطقة والانتماء؟
إن النخبة التي يمثلها عبد الله، لم تكتف يومًا بمصادرة الثروة والسلطة، بل أرادت أيضًا أن تحتكر الوعي. أن تقول لنا ما هو المشروع الوطني، وما هي الأخلاق، ومن يستحق أن يُنصت له، ومن يُعدّ “صاحب أجندة”. وهي في كل ذلك لا تختلف عن العسكر الذين يقصفون الأحياء بالمدفعية؛ فبين المدفع والقلم علاقة أزلية حين يُستخدمان ضد الحقيقة.
في هذه الحلقة الثانية، يتضح أن ما جرى في لقاء الجزيرة لم يكن حالة عابرة، بل كان إعلانًا ضمنيًا عن خيانة المثقف الذي ظل يزعم الانحياز للإنسان، ثم تراجع حين أصبح الإنسان من دارفور أو جبال النوبة. إنها خيانة مزدوجة: خيانة الفكر، وخيانة الضمير.
في الحلقة الثالثة، نذهب إلى العمق، لنفكك كيف تحوّل عبد الله علي إبراهيم من منظّر للعدالة إلى داعية جهوي متغطرس، وكيف أسهم خطابه – دون أن يدري – في تأبيد الأزمة السودانية، وتكريس سردية المركز المحتكر للسلطة.