يوميات شاهد على استخدام الإخوان للسلاح الكيميائي في معارك أم درمان القديمة
الجزء الأول: حين عدتُ وحدي إلى مسرح الجريمة

التنوير: تقرير
لم يكن في نيّتي أن أعود، لكن شيئًا ما في صدري كان يجذبني نحو المكان الذي فقدت فيه إخواني. أم درمان القديمة لم تكن يومًا مجرد حيّ؛ كانت مرآة لذاكرة الحرب، ورفقة السلاح، وأحلام الفتيان الذين صدقوا أنهم يقاتلون لأجل وطنٍ عادل.
عُدتُ وحدي بعد أربعة أيام من توقف المعارك، حين سكتت أصوات القصف فجأة، دون أن تُعلَن هدنة أو اتفاق. الشوارع كانت خاوية، نوافذ البيوت مكسّرة، جدران الحيطان عليها آثار حرارة ليست كآثار القنابل المعتادة، والرائحة… كانت غريبة، خانقة، تشبه العفن المخلوط بالموت.
أول ما رأيته كان جثة “عبدالرؤوف”، ممددة تحت جدار مدرسة البنات. كان متوشحًا بسلاحه، كأنما ظلّ يقاوم حتى لحظة موته، لكن بشرته كانت غريبة، داكنة جدًّا، كأنها احترقت بالنار… ولم يكن في المكان أي أثر لحريق.
تحركت ببطء. مشيت دون أن أشعر بخطواتي. في ساحة السوق القديم، وجدت “حسن” و”عثمان” و”خالد”، كلهم في وضعية قتال، لكنهم كانوا موتى. بعضهم ممسك بسلاحه، بعضهم ملقى على ظهره وفمه مفتوح، كأنه حاول أن يصرخ ولم يسعفه الهواء.
كانت الجثث في كل مكان: على الأسطح، داخل المتاريس، بين الركام. لم تكن هناك جروح أو نزيف كما تعودنا، بل تغيّر غريب في لون البشرة، تورّمات، واحمرار في العيون حتى بعد الموت. وكأن الموت لم يكن بالرصاص… بل بشيء خفي.
في أحد المنازل، وجدت خزان مياه مشقوقًا، ينزف سائلاً برتقالي اللون، له بريقٌ معدنيٌ خافت. شممت رائحة الماء… فشعرت بالغثيان مباشرة. ما هذا؟ ليس ماءً، وليس وقودًا، وليس شيئًا رأيته من قبل. أدركت حينها فقط أن ما حدث هنا ليس معركة، بل جريمة أكبر.
قلبت في جيوب عبدالرؤوف، ووجدت دفتره الصغير. آخر ما كتبه:
“الهواء اتغير… والموية بقت تلسع الجلد… في زول بيجرب فينا ولا شنو؟”
نعم يا عبدالرؤوف. كانوا يجربون فيكم.
لم تكن ضربة عشوائية، ولا معركة سلاح متكافئ. كان ما جرى استخدامًا متعمّدًا لسلاحٍ لم نرَه من قبل. مادة كيماوية خبيثة، انتشرت دون صوت، دون لون، قتلت من كان يقاوم ومن لم يكن في موقع الاشتباك.
سمعنا عن هذا السلاح من قبل… في حلب السورية، في حماة، في الفلوجة… لكننا لم نتخيل أنه سيُجرَّب علينا نحن، في أم درمان، بأيادٍ سودانية وتخطيط خارجي.
الأخبار التي تسربت لاحقًا أكدت أن وحدات معينة داخل الجيش، بتنسيق سري مع عناصر من الحرس الثوري الإيراني، زوّدت مجموعات تابعة للإخوان بهذا السلاح. تم الاختبار في حيّنا، على جنودنا، على إخوتنا.
نحن لم نُهزَم في تلك المعركة… نحن تمّت خِيانتُنا.