رأي

كيف التف الكيزان على القرارات الدولية ومن دفع الثمن؟

بقلم: منال علي محمود

منذ انقلابهم في يونيو 1989، عرف الكيزان كيف يناورون مع المجتمع الدولي. كل قرار أممي أو بيان إدانة كان يتحول في خطابهم إلى مؤامرة كونية ضد المشروع الإسلامي. لكن في الخفاء، كانت وفودهم تتحرك، تساوم، وتقدم التنازلات التي تحفظ سلطتهم فقط.

 

حين أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق البشير في 2009، استغلوها كأداة دعاية. خرج البشير يرقص في الساحات، يزور العواصم الرافضة للتعاون مع المحكمة، ويظهر كرمز للصمود الوطني. لم تكن هذه سوى أولى حلقات التفافهم على القرارات الدولية، بينما بقيت دارفور تنزف.

 

كل قرار دولي قابلته حيلة جديدة. في 2013، حين صرح السفير السوداني في الأمم المتحدة، دفع الله الحاج، مدافعاً عن قوات الدعم السريع، لم يعترض أحد من ممثلي الدول الكبرى. وكأن العالم قبل الرواية الرسمية، وسمح بتمريرها كحقيقة في محاضر الجلسات. قال دفع الله إن الدعم السريع جزء من القوات المسلحة، يؤدي واجبه في حفظ الأمن، متجاهلاً كل التقارير التي وثقت الجرائم المروعة بحق المدنيين. بهذه الطريقة بدأ مسار التبييض الدولي لهذه القوات، التي ستتحول لاحقاً إلى فاعل سياسي وعسكري رئيسي.

 

لم يكن السفير يتحدث من فراغ، بل ضمن خطة مدروسة لتقديم هذه القوات كضرورة وطنية في مواجهة التمرد، مستغلاً تعاطف المجتمع الدولي مع محاربة الإرهاب، ومخاوف بعض الدول من تدفق اللاجئين.

 

في 2023، تصاعدت جرائم الحرب والقتل الجماعي في دارفور مجدداً، لكن لم نجد من يذكر تصريحات 2013، أو يسائل الذين دافعوا عن تلك القوات وسهلوا اعترافها الدولي. كأن الذاكرة الدبلوماسية تمحى، وتعاد كتابة القصة بمنطق المنتصر.

 

أما نحن، فقد كنا دوماً من يدفع الثمن. القرى التي أحرقت، النساء اللواتي اغتصبن، الأطفال الذين قتلوا أو جُندوا، والنازحون الذين لم يعرفوا طعم الاستقرار منذ عقدين. وبينما الكيزان يصوغون من المآسي انتصارات إعلامية، ويناورون باسم السيادة الوطنية، تبقى دماء الأبرياء بلا قيمة في ميزان السياسة الدولية.

 

كلما صدرت عقوبات، رفعوا عويلهم. السيادة في خطر، الإسلام مستهدف، الاستعمار يعود من نافذة المنظمات. ثم يلتفتون ليطلبوا لقاءات سرية مع موظفين غربيين، يفتحون لهم الأبواب الخلفية، ويمررون ما يريدونه باسم الاستقرار أو التعاون الأمني.

 

ماذا يريد الغرب؟ معلومات استخباراتية؟ ضبط حدود؟ تسهيلات استثمارية في قطاع المعادن؟ لا بأس. لكن لا تقتربوا من الكرسي. الكرسي لنا، والباقي لكم.

 

لقد احترفوا اللعبة. قدموا أنفسهم كأقل الشرور، كممسكين بزمام الأمور، كإسلاميين معتدلين يمكنهم كبح الجهاد العابر للحدود، وضبط المهاجرين غير النظاميين، وإسكات الجنوب، وإدارة دارفور بالبندقية لا بالقانون. كل قرار دولي يتحول في معاملهم السياسية إلى فرصة. إما لكسب الوقت، أو لشراء شرعية جديدة.

 

ألم يُرفع اسم السودان من قائمة الإرهاب، بينما كانوا على رأس السلطة؟ ألم يستقبلهم دبلوماسيون كبار في العواصم التي طالما شتموها؟ ألم تفتح لهم أبواب البنك الدولي، بوعود التحول المدني، وهم يعدون للانقلاب التالي في صمت؟

 

في كل مرة، كان المجتمع الدولي يتغافل. يرسل وفوداً لتقصي الحقائق، ويجلس مع القاتل ليطلب منه حماية الضحية. يفرض عقوبات على بعض الأسماء، ثم يفاوضهم لاحقاً في غرف جنيف ونيويورك باسم الحل الشامل. وكأن الإبادة الجماعية تحل بالدردشة والبيانات الصحفية.

 

وفي الأثناء، كان الضحايا يدفنون في مقابر جماعية، مثل زملائهم الذين قبروهم أحياء في رمضان، أو يتركون ليموتوا في العراء.

 

ما الذي تغير منذ مذكرة توقيف البشير؟ لا شيء. بل زاد عدد الجنرالات، وتناسلت القوات المسلحة، وازدهر سوق السلاح، وتحولت دارفور من ملف إلى منجم.

 

ثم جاءت اللحظة الفاصلة في 2023. مشاهد مجازر الجنينة، والقتل على الهوية، والسحل أمام الكاميرا. الجميع يعرف، والجميع شاهد. فماذا فعلت الأسرة الدولية؟ دعت إلى التهدئة، وأعلنت القلق العميق، وكأنها تكتب نفس البيان الذي استخدمته في البوسنة ورواندا، بعد أن انتهى كل شيء.

 

الكيزان اليوم، بوجوه جديدة، يطلون علينا من ذات النوافذ. يغيرون أسماء أحزابهم، يجددون خطاباتهم، ويعرضون أنفسهم كقادة وطنيين مستعدين لتقاسم السلطة. ذات العيون، ذات الأيادي الملطخة، لكن بقفازات جديدة.

 

في ظل هذا الواقع المرير، أعلن في نيروبي عن حكومة التأسيس كفرصة تاريخية للخروج من دوامة الالتفاف والفشل. هذه الحكومة تمثل إصرار السودانيين على تأسيس قيادة جديدة قوية، شرعية، ومستقلة عن كل المصالح الضيقة التي أفسدت الوطن لعقود.

 

حكومة التأسيس ليست مجرد إعلان سياسي، بل هي مشروع واقعي يهدف إلى:

 

إعادة بناء مؤسسات الدولة من الصفر بعيدًا عن الفساد والمحسوبية.

 

فرض العدالة ومحاسبة المجرمين على جرائم الحرب والانتهاكات.

 

تحقيق السلام الحقيقي عبر شراكة وطنية شاملة تحترم كل مكونات السودان.

 

العمل مع المجتمع الدولي بشفافية ومصداقية لضمان الدعم اللازم دون تنازلات فاسدة.

 

 

ولا على طريقة كمييل، عندما قال حوارًا لا يستثني أحد، وكأنما لم يتم فض اعتصام الثورة وحدث ما حدث.

 

هذه الحكومة تمتلك الشرعية الشعبية والسياسية التي تجعلها قادرة على مواجهة التحديات الكبرى، وكسر حلقات الفساد والالتفاف التي عرفها النظام السابق.

 

أما قرارات أمريكا الأخيرة التي تحث على التفاوض، فهي لن تصنع لنا سلامًا مع قوم أدمنوا الكذب والالتفاف، وانتزعوا شرعيتهم بقوة السلاح غير المشروع. فهل تعجز حكومة التأسيس عن أخذ كتابها بقوة وإرادة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!