رأي

متلازمة الجهل والفقر والمرض في حرب السودان

الحلقة الأولى: فشل الدولة القومية بعد الاستقلال في خلق وجدان وطني موحد

منذ لحظة الاستقلال في العام 1956، حمل السودانيون آمالًا عريضة في بناء وطن حر، مزدهر، تسوده العدالة والمساواة. غير أن تلك اللحظة التاريخية، بدل أن تكون بداية لعصر جديد، تحولت إلى مدخل مأساوي لفشل مشروع الدولة القومية، حيث غابت الرؤية الجامعة، وتم اختزال الوطنية في شعارات جوفاء تقرع طبولها النخب المركزية التي ورثت أدوات المستعمر دون أن تلامس روح الاستقلال الحقيقي، لا مؤسساتيًا ولا وجدانيًا.

 

لقد أخفقت الدولة القومية في السودان في بلورة وجدان وطني مشترك، يذيب الانتماءات القبلية والجهوية والدينية في نهر واحد من الهوية السودانية الجامعة. وبدلاً من ذلك، كرّست الأنظمة الوطنية، خاصة العسكرية منها، سياسات فرق تسد كأساس للحكم والإدارة. ومن خلال تقسيم المجتمع إلى مربعات طائفية وجهوية وعرقية، عمدت هذه الأنظمة إلى إضعاف اللحمة الوطنية بهدف تسهيل السيطرة والتحكم. كانت السلطة المركزية تدرك أن وحدة السودانيين تمثل الخطر الأكبر على بقائها، ولذلك عملت على تكريس الانقسام كأداة للحفاظ على سلطتها.

بلغ هذا النهج ذروته مع انقلاب الجبهة الإسلامية القومية في عام 1989، حيث تبنى النظام الإخواني سياسة ممنهجة لتفكيك الدولة الوطنية وإعادة تشكيلها على أسس تضمن ولاءً أيديولوجيًا مطلقًا وتبعية اقتصادية واجتماعية مطلقة. لم يكن هدف الإسلاميين بناء دولة عادلة أو رشيدة، بل إقامة سلطة تحكمها العصبة، وتُدار عبر شبكات الولاء والمحسوبية، وتتحكم في موارد البلاد ومصائر العباد.

 

ولتحقيق هذه السيطرة، شن النظام حربًا على ركائز المجتمع: التعليم والصحة والكرامة. تم تدمير النظام التعليمي الوطني، وتفكيك الجامعات، وتسييس المناهج، وتحويل المدارس إلى أدوات تعبئة دينية وسياسية. أصبحت المدارس ساحات تجنيد أيديولوجي، لا منارات معرفة. كما تم إهمال الصحة العامة بشكل متعمد، ما ساهم في تفشي الأمراض وضعف البنية الصحية، خاصة في المناطق المهمشة.

 

أما الجانب الأخطر، فهو محاولة النظام لتجريد المواطنين من كرامتهم، وتحويلهم إلى رعايا يتسولون أبسط حقوقهم من الدولة – الخبز، والدواء، والوقود، والتعليم، والأمان. بهذا النهج، نجح النظام في خلق “شعب مُستضعف” مستكين، يخاف التغيير، ويقبل بالفتات، ما دام الصوت المرتفع يقابل بالقمع والسجن والتعذيب.

لقد كانت النتيجة المباشرة لهذا الانهيار الممنهج للوجدان الوطني، أن أصبح السودان عرضة للاهتزازات العنيفة والانقسامات العميقة. فمن لم يشعر يومًا أن هذه الدولة تمثله، لن يجد غضاضة في حمل السلاح ضدها. ومن لم يجد في مؤسساتها فرصة للحياة الكريمة، سيراها خصمًا لا حاميًا. وعندما اندلعت الحرب في أبريل 2023، لم تكن مفاجئة بقدر ما كانت نتيجة طبيعية لمشروع متكامل من التهميش والإفقار وتدمير الإنسان.

إن أزمة السودان ليست مجرد صراع على السلطة أو موارد، بل أزمة متجذرة في فشل ذريع لبناء وجدان وطني، يصون الوطن ويعلي من شأن المواطن. هذا الفشل هو الذي مهد الطريق للجهل والفقر والمرض، ليتحولوا من تحديات تنموية إلى أدوات في معركة سياسية دامية، تدار من قِبل من يستثمرون في الانقسام والبؤس ويستفيدون من دمار الوطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!