اخبار

يوميات شاهد على استخدام الإخوان للسلاح الكيميائي في معارك أم درمان القديمة

الجزء الثالث: الجثث التي تنظر إليك… بلا عيون

التنوير: خاص

كنت أظن أنني رأيت كل ما يمكن أن تفعله الحرب في البشر. رأيت الجرحى الذين يزحفون بلا أرجل، شهدت رفاقًا تمزقهم القذائف، رأيت الموتى وقد سكنت ملامحهم كأنهم نائمون في سلام.

لكن في أم درمان القديمة، رأيت شيئًا آخر. شيئًا لا يمكن أن يوصف إلا بأنه مسخ للإنسانية.

كان النهار قد بدأ ينكسر. شمس المغيب تلقي بظلالها على البيوت الطينية المنهارة، والهواء لا يزال مشبعًا بتلك الرائحة المعدنية. دخلتُ إحدى الارتكازات القريبة من السوق الشعبي، أبحث عن ناجين أو جثث يمكن نقلها.

في الزاوية الخلفية، وجدت ستة جنود. كلهم متحلقون حول جهاز اتصال، كأنهم حاولوا طلب الدعم. أجسادهم كانت صلبة، كأن الزمن توقف عند لحظة واحدة.

لكن وجوههم… لم تكن بشرية.

عيونهم لم تكن موجودة. فراغ أسود فقط، كأن الغاز أذاب أعينهم من الداخل. لم تكن هنالك دماء، بل شيء مثل الهلام الجاف، التصق على الجفون. أحدهم كان فمه مفتوحًا، وعلى لسانه بقايا رغوة داكنة.

لم أصرخ. لم أبكِ. لم أهرب.

وقفت فقط. أراقب، وأحاول أن أفهم ما حدث هنا.

تلك الجثث لم تكن لقتلى معركة. كانت لجثث تشرّبت السم. جسد الجندي الطبيعي حين يُقتل بالرصاص يكون له وضع معروف. لكن هؤلاء؟ أجسادهم كانت منتفخة قليلاً، ألوانهم مائلة للأسود المزرق، وملابسهم عليها بقع صفراء وخضراء، كما لو أن مادة سامة قد تسربت من الداخل.

فوق أحد الأسطح، وجدت جنديًا كان يتمركز مع قناصته، جثته مسنودة على الحائط، ويده ما زالت تمسك بالسلاح. اقتربت ببطء. حين لمست خوذته، تحللت أطراف أصابعي من البخار الذي لا يزال يتصاعد من جسده.

الحرارة لم تكن ناتجة عن شمس أو نار. كانت حرارة تفاعلٍ كيماوي لا زال مستمرًا.

في ركنٍ آخر من الحي، رأيت بركة ماء صغيرة، لكن لونها كان برتقاليًا داكنًا، كالصدأ. حولها، لم تكن هناك أعشاب، ولا حتى نمل أو ذباب. الموت الكيماوي لا يقتل الإنسان وحده، بل يمسح الحياة من التربة نفسها.

التقارير بدأت تصل متأخرة. وحدات الطوارئ تتحدث همسًا عن غازات أعصاب، وعوامل حارقة. بعض الضباط تحدثوا عن شحنات وصلت عبر البحر الأحمر، نُقلت مباشرة إلى وحدات يقودها ضباط موالون للإخوان، وبدعم تقني من عناصر إيرانية.

نفس النمط الذي رأيناه في مناطق الحروب الطائفية… يتكرر هنا.

حين خرجت من تلك الارتكازات، كان الليل قد حل. لكنني شعرت أن الظلام الحقيقي لم يكن في السماء، بل فيما رأيت.

جثث تنظر إليك بلا عيون… كأنها تسألك: لماذا خُناهم؟ لماذا تركناهم يواجهون هذا السلاح وحدهم؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!