
الحلقة الأولى: مواجهة منهجية مع العصر وعداء موضوعي مع الجميع
منذ لحظة التأسيس الأولى لجماعة الإخوان المسلمين في مدينة الإسماعيلية عام 1928، حمل المشروع الإخواني في داخله بذور التصادم مع الحداثة السياسية والاجتماعية والفكرية التي كانت تتشكل في المنطقة العربية عقب سقوط الخلافة العثمانية. لم يكن المؤسس حسن البنا صاحب رؤية إصلاحية تحاول التكيف مع العصر، بل كان أشبه بمبعوث رجعي مهمته إعادة تشكيل العالم على أنقاضه، انطلاقًا من وهم استعادة الخلافة الإسلامية وتطبيق الشريعة بوصفها “الحل الكامل” لكل المشكلات المعاصرة.
هذا التأسيس الأيديولوجي وضع الإخوان، منذ وقت مبكر، في حالة مواجهة مفتوحة مع الدولة الوطنية الحديثة، ومع المجتمع المدني الذي يتأسس على قيم المشاركة والتعددية والحقوق. كان من الطبيعي إذن أن ينظر إليهم باعتبارهم “تنظيماً فوق الدولة”، لا يعترف بشرعيات سواهم، ولا يتورع عن استخدام الدين كأداة للصراع السياسي، بما في ذلك تكفير الخصوم وتبرير العنف ضدهم.
كما لم تكن خصومة الإخوان مع الأنظمة العربية وحدها، بل مع المجتمعات نفسها. ففي مصر، حيث نشأ التنظيم، ظل في صدام مستمر مع كل الحكومات المتعاقبة من الملكية إلى الجمهورية، من عبد الناصر إلى السادات فمبارك، وانتهاء بتجربته القصيرة والفاشلة في الحكم عقب ثورة يناير. ولم يلبث أن انقلب على الشرعية التي أتت به، وتحالف مع تنظيمات عنف سري، مما أعاد إنتاج صورته القديمة كتنظيم معادٍ للدولة ومهدد للاستقرار العام.
في الأردن، تمت محاصرة تمدد الإخوان تحت عنوان واضح هو الحفاظ على السلم الأهلي ومنع تغول الدين في السياسة. وفي الخليج، ظلت السلطات متوجسة من تنظيم “الإخوان المسلمين” وتياراته المحلية، خصوصاً بعد ما عُرف بالربيع العربي، حيث انكشفت شهية الجماعة للسلطة واستعدادها لركوب أي موجة شعبية ثم الهيمنة عليها.
إن هذا العداء الموضوعي الذي تراكم عبر العقود لم يكن نتيجة “مؤامرات” ضد الجماعة كما تدّعي أدبياتها، بل بسبب بنيتها المغلقة، وادعائها احتكار التفسير الديني، وتكتيكاتها الانتهازية التي لا تعرف مفهوماً مستقراً للتحالف ولا تعترف بثقافة الشراكة.
السؤال المحوري هنا هو: لماذا تتبنى جماعة الإخوان موقفاً عدائياً تجاه الجميع؟ لا يمكن فهم هذا السلوك خارج الإطار العقائدي الصارم الذي يجعل من “التمكين” غاية نهائية، حتى وإن تطلب الأمر تحالفاً مع الشيطان. فهم لا يؤمنون بالتعايش بقدر ما يراهنون على الاستحواذ؛ لا يعترفون بالاختلاف بل يعتبرونه تهديداً وجودياً. ولذلك تجدهم يتحالفون مع الخصوم أحياناً لهدم المؤسسات القائمة، ثم ينقلبون عليهم بعد أن تستوي لهم السلطة.
ثمّة تصور دائم في عقيدة الإخوان بأنهم “الفرقة الناجية”، ما يبرر في نظرهم الاصطفاف ضد الدولة والمجتمع إن لزم الأمر. هذا النرجسية السياسية جعلت منهم جماعة منبوذة في العالم العربي، لا لأنها “مظلومة”، بل لأنها لم تستطع يوماً أن تتصالح مع فكرة المواطنة ولا مع قيم العصر الحديث.
خلاصة
جماعة الإخوان المسلمين منذ نشأتها، ظلت في مواجهة منهجية مع العصر. لا تعترف بالدولة الوطنية، وتحتقر الديمقراطية التعددية، وتتعامل مع السياسة بمنطق الغنيمة لا الخدمة العامة. ولأنها كذلك، فقد وجدت نفسها مطرودة من الدول، ومعزولة عن المجتمعات، وملاحقة من الأنظمة. وهذه العزلة لم تكن هزيمة عندهم، بل تحولت إلى “رأسمال” سياسي يُستثمر في إثارة مشاعر المظلومية، وكسب التعاطف، والتربح من الأزمات. وهو ما سيتضح أكثر في الحلقة القادمة حول تجربة السودان.