بحكم وجودي في الغرب؛ كيف حول الاخوان السودان إلى دولة منبوذة؟”
الحلقة الأولى: العلاقات السودانية مع بريطانيا وأمريكا بعد الاستقلال

د. فاطمة الزين الغالي
تمهيد
بعد نيل السودان استقلاله في عام 1956، ورث دولة حديثة العهد بالبناء المؤسسي، لكنها كانت ترتبط بعلاقات وطيدة ومتجذرة مع كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية. لم تكن تلك العلاقات مجرد امتداد للإرث الاستعماري البريطاني، وإنما تحوّلت إلى روابط متشابكة شملت التعليم، والصحة، والثقافة، والسياسة، والاقتصاد. هذا الترابط الوثيق، جعل من نظرة الغرب إلى السودان، نظرة إيجابية في عمومها، تتعامل معه بوصفه بلدًا واعدًا بالإصلاح والتقدم.
- 1. السودان المستقل: قبول دولي ودعم غربي
في السنوات الأولى للاستقلال، تميز السودان بنظام ديمقراطي برلماني، ونخبة متعلمة ذات جذور قوية في الخدمة المدنية والتعليم العالي. هذا الاستقرار النسبي، أكسب السودان احتراماً دولياً، وجعل منه نموذجاً للدولة الإفريقية الحديثة. وقد فتحت بريطانيا والولايات المتحدة أبوابهما أمام السودانيين، ليس فقط للدراسة، بل للاندماج الثقافي والاجتماعي.
فقد كان من المعتاد أن يُبتعث عشرات الطلاب سنوياً إلى جامعات مثل “كامبريدج” و”أوكسفورد” و”لندن سكول أوف إيكونوميكس”، وكذلك إلى مؤسسات مرموقة في أمريكا مثل “هارفارد” و”ستانفورد” و”كورنيل”. لم تكن هذه البعثات نخبوية فقط، بل شملت الآلاف من الطلاب السودانيين ممن التحقوا ببرامج البكالوريوس والدراسات العليا، على نفقة حكوماتهم أو بدعم من مؤسسات مانحة مثل “فولبرايت” الأمريكية و”تشيفنينغ” البريطانية.
- 2. عبود ونميري: تنويع العلاقات والحفاظ على الاحترام
رغم الطبيعة العسكرية لحكومتي عبود (1958-1964) ونميري (1969-1985)، إلا أن العلاقات مع الغرب، وبخاصة بريطانيا وأمريكا، لم تشهد عداءً صريحاً أو قطيعة مباشرة. بل على العكس، حاولت هذه الأنظمة تنويع علاقاتها الدولية، دون التخلي عن الشراكة الغربية.
في عهد عبود، ظل التعليم في الخارج متاحاً، وواصل السودانيون التوافد إلى بريطانيا وأمريكا. بل إن نظام عبود تعاون مع المؤسسات الغربية في مجالات الزراعة والهندسة والكهرباء، واستفاد من دعم دولي لإنشاء بنية تحتية وطنية.
أما نميري، فشهدت فترته تقلبات سياسية شديدة، خاصة بعد تحالفه مع الإسلاميين لاحقًا، لكن ظلت العلاقات مع أمريكا قوية، خاصة خلال فترة التحالف مع السادات ومباركة الغرب لاتفاقية أديس أبابا (1972). وبفضل دعم أمريكا، حصل السودان على قروض ومعونات تنموية ضخمة، وكان يُنظر إليه كحليف استراتيجي ضد النفوذ السوفيتي في إفريقيا.
- 3. سهولة السفر وحرية الحركة
نتيجة لهذه العلاقات الممتدة والثقة المتبادلة، تمتّع السودانيون بامتيازات خاصة عند السفر إلى الغرب. كانت تأشيرات الدخول تُمنح بسهولة، وأحياناً عند الوصول، كما هو الحال مع بريطانيا التي منحت السودانيين إقامة لمدة 6 أشهر عند الدخول دون الحاجة لتأشيرة مسبقة.
كما كانت ألمانيا، وفرنسا، ودول أوروبا الشرقية، تُعامل السودانيين بكثير من الاحترام، وتمنحهم فرص التعليم والعلاج والسياحة، دون تعقيدات تُذكر. وقد أدى ذلك إلى ازدهار حركة السفر، وارتباط أجيال سودانية كاملة بتجارب الحياة الغربية في إطار تبادل حضاري مثمر.
- 4. اندماج السودانيين في المجتمعات الغربية
بفضل هذا التفاعل الإيجابي، نجح آلاف السودانيين في الاندماج داخل المجتمعات الغربية، ليس فقط كطلبة أو موظفين، بل كجسور تواصل ثقافي وإنساني. وقد ساهم ذلك في تشكيل صورة إيجابية عن السودان في أذهان الغربيين، بوصفه بلداً مسالماً، متعلماً، ذا كفاءات عالية ومؤسسات تعليمية رصينة.
لم يكن الجواز السوداني آنذاك عبئاً، بل كان يُعامل بالاحترام، وكان يُفتح لحامليه الأبواب في المطارات والمؤسسات بلا شكوك أمنية أو تمييز.
خاتمة
لقد مثلت العقود التي تلت الاستقلال مباشرة، خاصة في ظل حكومات الاستقلال وعبود ونميري، العصر الذهبي للعلاقات السودانية الغربية. فقد رأى الغرب في السودان مشروع دولة قابلة للنهوض، ومجتمعاً قابلاً للاندماج، وإنساناً جديراً بالثقة والتعامل. غير أن هذا الوضع لم يدم، كما سنرى في الحلقة الثانية، إذ جاءت فترة حكم الإخوان المسلمين لتقلب الصورة رأساً على عقب، وتحول السودان إلى دولة منبوذة، لا لشيء سوى لتطرف منظومتها الحاكمة وعزلتها الفكرية.