رأي

السودانيون؛ الحاجة إلى تفكير غير تقليدي لمواجهة متطلبات المرحلة

صالح السليمي

منذ اندلاع الحرب في السودان، لم تعد الكارثة محصورة في ميادين القتال، بل تجاوزت ذلك إلى أن صارت شاملة وجارفة لكل مظاهر الحياة. الدولة ككيان سيادي فقدت سيطرتها، والنسيج الاجتماعي تآكل، والمؤسسات العامة والخاصة انهارت، وحتى العائلة، آخر الحصون النفسية والمادية، أصبحت مهددة بالتشظي والانهيار. في مثل هذا السياق، لم يعد من المجدي انتظار الحلول من ذات المنظومات التي أسهمت في صناعة الأزمة، بل صار لزامًا على السودانيين – أفرادًا ومجتمعات – أن ينتقلوا من نمط التفكير التقليدي إلى نمط إبداعي غير مألوف، تفكير قادر على اختراق الواقع بأدوات جديدة تستجيب لحجم الكارثة، وتعبر بالسودانيين من مرحلة الصدمة إلى مرحلة الفعل.
أولاً: انهيار الوسائل الموضوعية التقليدية
طوال العقود الماضية، اعتاد السودانيون الاتكال – في الأزمات – على مصادر بعينها: الدولة ولو كانت هشة، القبيلة ولو كانت تقليدية، العائلة ولو كانت ممتدة، ومنظمات المجتمع المدني ولو كانت ضعيفة. غير أن الحرب الأخيرة، بسبب عنفها وتطاول أمدها، جرَّدت الجميع من تلك الوسائل. الدولة تلاشت في مناطق واسعة من السودان، والقبائل تفتت بفعل الاصطفافات العسكرية، والعائلات تشظت بسبب النزوح والشتات، والمجتمع المدني بات محاصرًا بالدمار والعجز.
في هذا الواقع، لا يمكن للسودانيين أن يواصلوا الحياة بنفس الأدوات، أو أن ينتظروا “عودة الأمور إلى ما كانت عليه”، فهذا الانتظار بحد ذاته شكلٌ من أشكال الاستسلام للانهيار البطيء.
ثانياً: ملامح التفكير غير التقليدي
ما المقصود إذًا بالتفكير غير التقليدي؟ إنه ببساطة نمط من التفكير لا يقف عند حدود ما هو مألوف أو موروث، بل يغامر بتجاوز المألوف إلى الممكن، ويمزج بين الفكرة والمبادرة، وبين الإبداع والعمل. في الحالة السودانية، يمكن تحديد أبرز ملامح هذا التفكير في المحاور التالية:
1. الفرد الفاعل بدل الجماعة العاجزة
من مظاهر التفكير التقليدي أن ينتظر الفرد الحل من الجماعة، سواء كانت القبيلة أو الحكومة أو الجالية. أما التفكير غير التقليدي فيُعوِّل على الفرد كعنصر تغيير مستقل. في واقع الشتات السوداني، صار من الضروري أن يتساءل كل سوداني: ماذا يمكنني أن أفعل أنا، لا ماذا يمكنهم أن يفعلوا هم؟ هل يمكنني أن أبدأ مشروعًا صغيرًا؟ أن أنشئ مبادرة تعليمية؟ أن أوفر خدمة في بيئة النزوح؟ أن أبتكر حلًا لمن حولي؟
2. الاقتصاد المجتمعي بدل انتظار الإغاثة
بدلاً من انتظار المعونات – التي باتت أقل من الحاجة – يمكن التفكير في نماذج اقتصادية تضامنية: شراكات صغيرة بين النازحين، تعاونية إنتاجية في معسكرات النزوح، منصات تمويل مجتمعي، أو اقتصاد خدمات يعتمد على تبادل المنافع بين السكان. في كثير من بلدان الحروب، ظهرت أسواق جديدة في قلب الدمار، لأن الناس قرروا أن يعيشوا رغم كل شيء.
3. التعليم المقاوم بدل التعليم النظامي
المدارس مغلقة، الجامعات مدمرة، ولكن الحاجة إلى التعليم قائمة. في التفكير التقليدي، يعني غياب المدارس غياب التعليم، أما في التفكير غير التقليدي، فالتعليم يمكن أن يُصنع في البيوت، في الخيام، في ساحات النزوح. معلمو الشتات يمكن أن يؤسسوا مبادرات تعليمية رقمية أو حضورية، والمجتمع يجب أن يتبنى فكرة “التعليم بوصفه مقاومة”، لا رفاهية مؤجلة.
4. إعادة تعريف القيادة المجتمعية
القيادة في السودان كانت حكرًا على السياسيين والعسكريين ورجال القبائل والدين. لكن هذه الحرب أثبتت أن كثيرًا من هؤلاء لم يكونوا في مستوى المسؤولية. التفكير غير التقليدي يقتضي بروز قيادات جديدة من رحم المعاناة: شابات ينشطن في تنظيم المجتمع، شباب يديرون مبادرات إغاثة، مغتربون يربطون الداخل بالعالم. هذا النوع من القيادة لا يحتاج إلى تفويض من أحد، بل يكتسب شرعيته من الفعل والنتائج.
ثالثاً: من الهزيمة إلى المبادرة
الانهيار الذي ضرب السودان لا يجب أن يتحول إلى هزيمة نفسية دائمة. التجارب العالمية تخبرنا أن الأمم، حين تنهض من تحت الركام، تفعل ذلك حين تؤمن بقدرتها على تجاوز الواقع. وقدرتنا – نحن السودانيين – ليست في الماضي، بل في الحاضر والمستقبل. إنها في اللاجئ الذي يعلّم أطفال المخيم، وفي المرأة التي تفتح مطبخًا لإطعام الجيران، وفي الشاب الذي يبني تطبيقًا يربط المتبرعين بالنازحين.

خاتمة
التفكير غير التقليدي ليس ترفًا ذهنيًا، بل ضرورة وجودية. وإذا كانت الحرب قد أخذت منا الوطن، فربما يكون علينا نحن أن نعيد خلقه – لا كما كان – بل كما يجب أن يكون. والمهمة تبدأ بفكرة، ثم إرادة، ثم شراكة، ثم خطوة في الطريق. فليبدأ كل سوداني بسؤال نفسه: ما الذي أستطيع فعله اليوم؟ وليس غدًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!