رأي

 متلازمة الجهل والفقر والمرض في حرب السودان

الحلقة الثانية: استخدام الفاقد التعليمي في الهامش كوقود لحروب المركز*

في ظل فشل الدولة السودانية في بناء منظومة تعليمية عادلة وشاملة، أصبح الفاقد التعليمي، لا سيما في مناطق الهامش، ظاهرة بنيوية متفاقمة. لكنّ الأخطر من هذا الفشل التعليمي كان في الكيفية التي تم بها استغلال هذا الفاقد، لا باعتباره مأساة وطنية تستوجب العلاج، بل باعتباره “مخزوناً بشرياً” يمكن استثماره سياسياً وعسكرياً في سبيل استدامة سلطة المركز.

على مدى العقود الماضية، وخاصة في ظل الأنظمة العسكرية والسلطات الشمولية، تم تحويل مخرجات الفاقد التعليمي في الريف والمناطق المهمشة إلى جيوش قبلية تعمل بالوكالة عن الدولة. فعوضاً عن توفير المدارس والمراكز الصحية وفرص التنمية، اختارت الحكومات المتعاقبة، وبشكل خاص في عهد نظام الإنقاذ، أن تستثمر في الجهل، وأن تصوغ منه أدوات قمعها وبقائها.

في الحرب الأهلية الطويلة مع جنوب السودان، كان تجنيد أبناء الهامش يتم على أسس إثنية وجهوية. المليشيات القبلية التي أنشأتها السلطة المركزية تم تشكيلها بعناية لخوض حروب لا تخدم مصالح مجتمعاتها، بل تدافع عن نفوذ المركز. تم تسليح هذه المليشيات وتمويلها تحت لافتات “الجهاد” تارة، أو “حماية الوطن” تارة أخرى، بينما كانت تُزج بهم في أتون حرب لم يفهموا أسبابها، ولم يجنوا منها سوى الموت والدمار.

خلفت هذه الحروب آلاف الضحايا من الأيتام والمعوقين والأرامل، خاصة في مناطق التماس – النيل الأزرق، جبال النوبة، دارفور، والشرق. ومع انتهاء المعارك، تُرك هؤلاء المقاتلون السابقون وأسرهم في العراء، بلا تعويض، بلا رعاية، وبلا مستقبل. لم تكن هناك برامج إعادة دمج، أو دعم نفسي، أو حتى اعتراف رسمي بما قدموه. على العكس، تم نسيانهم عمدًا، لأنهم أدّوا دورهم الوظيفي في حماية السلطة، ولم يعد لهم نفع.

هكذا نشأت أجيال من الشباب في الهامش لا تعرف غير العنف، ولم تجد في التعليم أو العمل المدني أي فرصة للارتقاء. هؤلاء الشباب، الذين لم تسعفهم الدولة بشهادة أو مهارة، صاروا يتناقلون السلاح كأداة للعيش، وباتوا جاهزين للانخراط في أي صراع جديد، ما دام يوفر لهم قوت اليوم أو شرفًا موهومًا أو حماية قبلية. فتحولت المجتمعات الريفية إلى مخازن بشرية للصراعات السياسية والعسكرية، وفقدت الثقة في مؤسسات الدولة ومشروع الوطن.

والأدهى من ذلك أن بعض هذه الجماعات تم توظيفها في حروب جديدة في دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة، وذلك حتى لا تشكل خطراً أمنياً السلطة المركزية، حيث تم تحويلها إلى أدوات انتقامية ضد مكونات اجتماعية أخرى، مما فاقم من منسوب العنف الأهلي والانهيار المجتمعي. لقد أنتج الفشل التعليمي، حين تم توظيفه عسكريًا، بيئة خصبة للعنف المستدام والانقسام المجتمعي، وساهم بشكل مباشر في انفجار الدولة السودانية من داخلها.

ما من دولة في العالم تستثمر في الجهل وتستبدل التربية بالسلاح، والتعليم بالتجنيد. وما من دولة فعلت ذلك إلا وانتهت إلى فوضى، كما هو الحال اليوم في السودان، حيث صارت الحرب مشهداً دائماً، والسلاح لغة وحيدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!