
رغم أن السودان يزخر بثروات طبيعية هائلة، وموقع جغرافي استراتيجي، وتاريخ ثقافي عريق، إلا أن مسيرته نحو الحداثة والتحول الحضري لا تزال متعثرة بشدة. فمع استمرار النزاعات المسلحة، وازدياد معدلات النزوح، وانهيار مؤسسات الدولة، يتعمق الترييف بدل أن تتقدم مظاهر التحضر.
لكن ما وراء هذا التعثر ليس فقط الحرب والانهيار الاقتصادي، بل منظومة من المشاكل الاجتماعية البنيوية التي تُقيد قدرات الدولة والمجتمع معاً، وتحول دون التحول من مجتمع تقليدي هش إلى مجتمع حضري منتج وعادل.
فيما يلي استعراض لأبرز عشرة تحديات اجتماعية تعوق هذا الانتقال، مع مقترحات عملية قابلة للتنفيذ كخطوات أولى للخروج من عنق الزجاجة.
- 1. الأمية وانهيار التعليم: الجهل بوابة الفقر والعنف
في السودان، لا تزال الأمية منتشرة، لا سيما في الريف ومناطق النزاع. التعليم العام يعاني من ضعف التمويل، وانعدام البنية التحتية، وتسرب الطلاب، وتسييس المناهج، ما أدى إلى تراجع مريع في مخرجاته.
وبغياب التعليم، يضعف رأس المال البشري، وتنتشر البطالة، وتتفشى مفاهيم تقليدية معوقة للتحضر.وهذا يقتضي إطلاق حملة تعليم طارئة تركز على الأطفال خارج المدرسة في مناطق النزوح، وتوفير الحوافز للمعلمين، وتبني نظام تعليم مهني يلبي احتياجات سوق العمل.
- 2. البطالة وغياب الفرص: الشباب بين الهجرة والحرب
يعاني السودان من بطالة مرتفعة، خاصة في صفوف الشباب والخريجين، نتيجة انهيار القطاعات الإنتاجية، وهروب الاستثمارات، وتضخم الاقتصاد غير الرسمي.
هذا الوضع يدفع الكثيرين للهجرة أو الانخراط في النزاعات المسلحة.
عليه من الضروري تشجيع ريادة الأعمال عبر تمويلات صغيرة، وتوجيه الاستثمارات نحو الصناعات التحويلية، والربط بين التعليم والتدريب المهني المباشر.
- 3. الفقر وعدم العدالة في توزيع الثروة: قنبلة اجتماعية موقوتة
يعيش أكثر من 60% من السودانيين تحت خط الفقر، بينما كانت الثروة والخدمات تتركز في العاصمة والمركز مما خلق حالة من عدم الرضى. هذا التفاوت يعمّق الإحساس بالغبن، ويغذي النزاعات.
ليس امام بلادنا سوى وضع سياسات تنموية موجهة للمناطق الطرفية، مثل دارفور والنيل الأزرق، وربط توزيع الموارد بمستويات الحرمان لا الولاءات السياسية.
- 4. تدهور الخدمات الصحية: مجتمع عليل لا يتحضر
منذ ما قبل الحرب يعتبر النظام الصحي في السودان شبه منهار، خاصة في الأقاليم. المستشفيات إما مدمّرة أو بلا كوادر أو أدوية. حيث تنتشر الأمراض المعدية والمزمنة بلا رقيب.
هذا الواقع يتطلب الاستفادة المحورية من الدعم الإنساني المتوقع بعد الحرب لتوفير وحدات طبية متنقلة، ودعم مراكز الرعاية الأولية، وتوسيع التأمين الصحي للفقراء.
- 5. النزاعات القبلية والإثنية: تفكيك نسيج المجتمع
في السودان تُغذي الانقسامات القبلية والسياسية حالة اللا استقرار. وتُستخدم الصراعات الإثنية لتبرير العنف والسيطرة على الموارد، ما يمنع أي شكل من أشكال التحضر الجماعي.
في مثل هذه الواقع لا بد من تبنّي مشروع وطني لبناء السلام الاجتماعي، تدعمه الإدارة الأهلية والمجتمع المدني، يقوم على المصالحة، لا المحاصصة.
- 6. النزوح والهجرة القسرية: تمدن مقلوب
منذ الاستقلال أدت الحروب المتكررة إلى نزوح ملايين السودانيين إلى أطراف المدن أو إلى معسكرات تفتقر لأبسط مقومات الحياة. ينشأ هؤلاء النازحون غالبًا ما أحياء عشوائية خارجة عن التخطيط الحضري، مما يشوه البنية التحتية للمدن. مما يتصلب معه إعادة الإعمار بشكل متزامن مع وقف الحرب، وتخطيط إسكان تعاوني للنازحين، وإنشاء مراكز خدمات متكاملة.
- 7. الفساد وتآكل المؤسسات: الدولة ضد التنمية
في السودان تتفشى المحسوبية والرشاوى في أجهزة الدولة، خاصة خلال العقود الأخيرة من حكم الإسلاميين، مما أدى إلى انهيار الخدمات، وتآكل الثقة بين المواطن والدولة.
هذا الواقع يتطلب – بعد الحرب – إنشاء مفوضية وطنية مستقلة لمكافحة الفساد بدعم دولي، وفرض رقابة مالية وإدارية على كافة مستويات الحكم.
- 8. التمييز الجندري والاجتماعي: تهميش نصف المجتمع
رغم نضال المرأة السودانية الطويل، إلا أنها لا تزال تُواجه تهميشاً مؤسسياً وثقافياً. كما تعاني الفئات الضعيفة (ذوو الإعاقة، الفقراء) من التمييز في الحقوق والخدمات.
ما يتطلب سنّ قوانين لمناهضة التمييز، وضمان تمثيل النساء في المؤسسات السياسية والاقتصادية، وتوفير برامج دعم خاص للفئات المهمشة.
- 9. العشوائيات والتوسع غير المخطط: مدن بلا روح
الخرطوم الكبري، كغيرها من مدن السودان، تنمو بشكل أفقي عشوائي بلا تخطيط، ما يخلق مناطق مكتظة بلا صرف صحي أو كهرباء أو طرق معبدة. هذا الشكل من “التمدن القهري” يخلق بيئة طاردة للتنمية.
الأمر الذي يجعل من الضروري وضع رؤي عمرانية وطنية تُشرك المجتمعات المحلية وتُراعي النمو السكاني، وإعادة تأهيل الأحياء القائمة.
- 10. الثقافة التقليدية المقاومة للتحديث: العُرف ضد المستقبل
في كثير من المناطق، لا تزال القيم التقليدية تعيق التغيير، سواء في مقاومة تعليم البنات، أو رفض المهن الجديدة، أو فرض الوصاية على الشباب. هذا الأمر يستدعي إطلاق حملات توعوية بالشراكة مع قادة المجتمع المحلي والديني، وتحديث الخطاب الإعلامي والتربوي لتعزيز مفاهيم التنمية والتحضر.
خارطة طريق للخروج من هذه الازمة يتطلب الولوج إلى بوابة التحضر من خلال مواجهة الأزمات الاجتماعية بشجاعة وإرادة سياسية صادقة. وهذه بعض المرتكزات التي يمكن أن تشكل بداية طريق التعافي:
- وقف الحرب فوراً وتهيئة بيئة آمنة للتنمية.
- بناء مشروع وطني شامل على أساس المواطنة لا المحاصصة.
- الاستثمار في الإنسان عبر التعليم والصحة وتمكين المرأة.
- توزيع عادل للموارد يُنهي المركزية ويُعزز العدالة الاجتماعية.
- مكافحة الفساد وبناء مؤسسات قوية وشفافة.
ان التحضر ليس فقط بناء أبراج إسمنتية، بل بناء الإنسان وتمكينه من العيش في بيئة عادلة ومنتجة وآمنة.