رأي

 العنصرية أكبر مهددات البناء الوطني

  نجم الدين دريسة

يُعد خطاب الكراهية من أكبر المخاطر التي تواجه تماسك المجتمع السوداني. والملاحظ أن هناك انتشارًا كثيفًا لهذه الظاهرة التي باتت تنخر في بنية المجتمع الاجتماعية، الأمر الذي أدى إلى تفكيك عُرى الوحدة الوطنية والبناء القومي الموصوم أصلًا بالهشاشة. وهذا بالطبع سيكون من مهددات بناء المشروع المدني الديمقراطي، خاصة أن الكراهية القائمة على التمييز تجاه الأفراد على أساس الهوية باتت تشكل خطرًا داهمًا، بسبب التحريض على العنف وتأجيج الصراعات، مما يقود إلى تضاؤل فرص بناء دولة المواطنة، علاوة على تآكل القيم المشتركة بين القوميات، وهي القيم التي ينبغي أن تُعزز خلق مشروع يدير التنوع والتعدد والتباين والاختلاف، بشكل متفق ومتراضٍ عليه.

 

لكن انتشار الخطاب بهذه الكثافة في الفضاءين السياسي والاجتماعي يتطلب بالضرورة معالجة هذه القضية عبر المنابر والمنصات التوعوية، ومناهضة هذا الخطاب، الذي كثّفت من انتشاره – للأسف – وسائل التواصل الاجتماعي التي ساهمت في هدم النسيج الاجتماعي، والذي كان يعاني أصلًا من الاهتراء بسبب موروثات اجتماعية سالبة جدًا، عمّقت الأزمة، وزادت من حدة العنصرية والتعصب، وغياب قبول الآخر واحترام التعددية.

 

منذ اندلاع هذه الحرب التي أشعلتها جماعات الهوس الديني المسيطرة على ما يُعرف بـ”الجيش السوداني”، لإجهاض الثورة الشعبية الباذخة – وهي نفس الجماعة التي وظّفت الدين لخدمة أغراض سياسية، وقسّمت المجتمع رأسيًا وأفقيًا بغرض إحكام السيطرة، أو ما يُعرف بسياسة “فرِّق تسُد” – ها هي، بعد أن أجّجت هذه الحرب اللعينة، وبعد فقدانها القدرة على توظيف الخطاب الديني والشعارات الجوفاء، تعود لتنشط في بث العنصرية البغيضة، وخطاب الكراهية، والتحشيد الاجتماعي، والتصعيد المستمر، وإحداث الفوضى، ورفض أي محاولات يمكن أن تسهم في إيقاف حمّامات الدم، وزيادة العدائيات، رغم أن مواقف قوات الدعم السريع، وكل خطابات قائدها محمد حمدان دقلو، تحمل إشارات إيجابية، وظلت تؤكد على الرغبة في إنهاء الحرب وإرساء دعائم السلام.

 

إن هذه الحرب لا تزال ماضية باتجاه تعميق الأزمة وتنامي خطاب الكراهية والعنصرية. والمؤسف أن حتى وسائل الإعلام الرسمية باتت ذات طابع منحاز لمليشيات البرهان وكتائبهم الإرهابية، المختطفة لصالح جماعة الإخوان المسلمين والمتعاونين معهم من حركات الارتزاق المسلحة، الفاقدة لأي سند أخلاقي. بل صار الخطاب يأخذ البعد العنصري والاستهداف الإثني لمكونات اجتماعية بعينها، إلى درجة أنهم باتوا يوصمون قوات الدعم السريع بأنها قوات غازية وغير سودانية، ومضى الأمر إلى حد إطلاق وصف “عرب شتات”، وهو أسوأ مصطلح عنصري أنتجته عقلية الدولة المركزية، حيث انخرط فيه كل أصحاب الامتيازات التاريخية والمصالح المرتبطة بالدولة النخبوية، من إعلاميين ومفكرين وسياسيين، بدعم مالي ضخم من رأسماليين ظلوا يرضعون من ثدي الدولة، وينهبون ثرواتها، ويعملون على خلق صورة إعلامية متخمة بالزيف والكذب والتضليل، لتجريد قوات الدعم السريع حتى من حقها المشروع في الانتماء للوطن، الذي بذل فيه من وُصموا بـ”عرب الشتات” أدوارًا تاريخية محورية ومتعاظمة، وكان لهم القدح المعلى في رسم خارطة وحدود هذا الوطن، الذي يُسمّى الدولة السودانية.

 

“قد تنكر العين ضوء الشمس من رمدٍ

وقد ينكر الفم طعم الماء من سقمِ”

 

قوات الدعم السريع تتكئ على كيانات عريضة تمثل طيفًا واسعًا من الشعب السوداني، كان لها القدح المعلى في تحرير الخرطوم من الحكم التركي، وسجلت نضالات خالدة في صدّ العدوان الإنجليزي ببسالة وجسارة وشجاعة شهد بها الأعداء، رغم الخيانة والارتهان للاحتلال، الذي قامت به مجموعات تتموضع اليوم في ذات الاتجاه. وما أشبه الليلة بالبارحة، لكن آن الأوان لعودة الوطن خالصًا لحضن أبنائه، وإنهاء عهود الأوليغارشية.

 

عودة السودان إلى أصحاب المصلحة، الذين يمثلون السواد الأعظم من سكانه، والذين يتمددون على مساحات واسعة، ويمتلكون موارد وثروات ومقدرات، ظلت السلطة المركزية القابضة، الخانقة، القاتلة، الفاسدة، والاستعمارية، تستأثر بفوائضها لما يقارب السبعين عامًا، لتنمية المركز، وبناء الغابات الإسمنتية في الخرطوم وعواصم أجنبية أخرى، بينما شعوبهم تعاني الفقر، والجهل، والمرض، وغياب التنمية:

 

كالعيسِ في البيداءِ يقتلُها الظمأُ

والماءُ فوق ظهورِها محمولُ

 

المؤسسات الاستعمارية، وعلى رأسها “جيش ونجت باشا” المرتهن للدولة المصرية البغيضة، مارست أسوأ أنواع العنف ضد الشعوب السودانية، ليظل السودان في حالة من عدم الاستقرار والتهميش السياسي لمعظم مكوناته. ولكن حرب الخامس عشر من أبريل تصدت لها قوات الدعم السريع، وانحازت لقضايا الوطن، وكسرت شوكة القوات المسلحة الاستعمارية، التي أدمنت قتل الشعوب، ووقفت ضد مصالحها وحقها في الحكم، وتدخلت سياسيًا، ونهبت ثروات البلاد، وزيّفت إرادة الشعوب. والمؤسف أنهم قد استمرأوا الأمر، وساروا على نهجهم القديم، لخلق حرب أهلية شاملة، عبر خطاب التقسيم الاجتماعي والتجريد من الهوية.

 

لكن تبقى الحقيقة الدامغة أننا يجب أن نتعاطى مع هذا المشهد السياسي السريالي بأدوات جديدة، تعزز من خطاب التسامح والتعايش، والعمل على بناء عقد اجتماعي جديد، قائم على إعادة بناء وتأسيس الدولة السودانية على أسس جديدة وعادلة، تقوم على المواطنة كأساس للحقوق والواجبات الدستورية، والعمل على إدارة التنوع والاختلاف بشكل سلس، والاستفادة القصوى من الموارد والمقدرات التي يزخر بها السودان، لصالح رفاهية شعبه، وبناء منصة صلبة للانعتاق من الماضي، والهجرة نحو مستقبل تسوده قيم العدالة الاجتماعية، والحرية، والسلام.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!