
في تاريخ الشعوب محطات فارقة تصنع الوعي وتعيد تشكيل المصير. ومن بين هذه المحطات السوداء في تاريخ السودان، تبرز تجربة الحركة الإسلامية التي امتدت لثلاثين عامًا، رفعت فيها شعارات الدين، لكنها سرعان ما أفرغتها من مضامينها، وحوّلتها إلى أداة للبطش والتمييز والتمكين الفئوي. فكانت النتيجة أن أطاح بها الشعب في ثورته المجيدة، بعد أن فاض به الكيل من القهر والاستبداد والفساد، ثم لم تلبث هذه الحركة أن عادت من رمادها لتشعل حربًا مدمّرة في 15 أبريل، حربًا لا تزال تمزّق البلاد والعباد باسم الدين والوطن، بينما حقيقتها لا تتجاوز شهوة السيطرة واستعادة النفوذ المفقود.
إن الدين الذي جاء رحمة للعالمين، استُخدم عندهم مطية للقتل، وسيفًا للتكفير، وحُكمًا للتفريق بين الناس حسب عرقهم وأشكالهم. أليست هذه خيانة للمقاصد العليا للشرع؟ قال الله تعالى: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم”، لكن الحركة جعلت معيارها الطاعة العمياء، والانتماء القبلي، والوجه الذي ينتمي لما سموه “الهوية”، فخاضوا حربًا على كل من خالفهم، حتى وإن كان أقرب لله منهم سعيًا وصدقًا.
لا يُحاكم الناس على ما لم يختاروه، فكيف بمن يحكم على تفاصيل الخلقة الربانية؟! أهو الإنسان من صنع شكله؟ أم هو الذي اختار قبيلته؟ إن الله تعالى يقول: “هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء”، فبأي منطقٍ أو شرعٍ تُصبح هذه الصورة تهمة؟! ومن أي فقهٍ يأتي قانونٌ يحاكم على الملامح؟! هذا عبث لا يُشبه إلا ما جاءت به الأنظمة العنصرية في جنوب أفريقيا، أو النازية حين صنّفت البشر على درجات.
لقد تجاوزوا كل القيم حين قصفوا المدنيين بطيرانهم الحربي، واستعملوا الأسلحة الكيماوية، وسمحوا بتقطيع الأجساد وبقر البطون، بل جعلوا من الأحياء ساحات لتجريب الموت، لا لشيء سوى لأن أهلها يختلفون عنهم في العرق أو الانتماء. قال رسول الله ﷺ: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده”، فأين هم من هذا الحديث؟ وأين هم من قول النبي ﷺ في فتح مكة وهو يعفو عن من آذوه: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”؟! لقد حولوا السودان إلى محرقة مفتوحة، وفقدوا بذلك كل سند ديني وأخلاقي.
إن سنة الله في الاختلاف ماضية لا محالة. قال تعالى: “ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟”. فالاختلاف في الفهم والاعتقاد هو أساس حركة الحياة، وشرط لوجود التنوع الذي أراده الله لحكمة، لا ليكون سببًا في التصنيف والإقصاء. وفي هذا قال المفسرون: إن الله لم يخلق الناس على نسق واحد، بل شاء لهم أن يختلفوا حتى يتكاملوا لا ليتناحروا.
ومن تمام هذا الاختلاف أن تقوم الحضارات وتتساقط بحسب ما تقدمه للبشر من عدل ورحمة، لا بحسب جبروتها أو عرقها أو شعاراتها. ولقد قال تعالى: “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض”، فالتدافع سنة ربانية، لكن لا يكون بسفك الدماء وقتل الأبرياء، بل يكون بإقامة العدل وكسر شوكة الظلم وتصحيح المسارات. التدافع الإيجابي هو ما يحيي الأمم، أما الحروب العبثية القائمة على التوسع والغنائم والطغيان، فإنها لا تبني وطنًا ولا ترسخ دينًا.
لقد ربطت الشريعة الإسلامية أحكامها بمصالح الناس، وجاء فقه المقاصد ليؤكد أن حفظ النفس والعقل والمال والنسل والدين هي الغاية العليا. لكن الحركة الإسلامية في السودان دكّت هذه الضروريات كلها باسم الدين. قال الإمام الشاطبي: “حيثما وُجدت المصلحة فثم شرع الله”، لكنهم عكفوا على مصالحهم هم، فشوّهوا صورة الإسلام، وأعطوا خصومه مبررًا للهجوم عليه.
فليس عجبًا إذًا أن يثور الشعب عليهم، كما تثور النار في الهشيم. قال أحد شعراء السودان:
الحرية ما بنهديها
والكرامة ما بتنشرى
لقد قالها الشعب عاليًا، في شوارع الخرطوم، ونيالا، وكسلا، وكادقلي، وكل شبرٍ من الوطن، أن لا عودة للاستبداد مهما تلثّم بالدين أو ادّعى الطهر. وإن كان الظلم قد دام ثلاثين عامًا، فإن لليل مهما طال آخرًا. وكما قال العرب: “إذا الشعب يومًا أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر”.
لكن بدلًا من الاعتراف بالفشل والتوبة، عادت الحركة الإسلامية من نوافذ الحرب. أشعلت القتال، وأعادت البلاد إلى مربع النار، واستدعت أسوأ أدواتها: تفوق زائف، وأحكام بالولاء والبراء، وسرديات مشروخة عن الفتح والتمكين. لكنها لم تعد تقنع أحدًا. فقد كشف الشعب زيفها، وسقط القناع.
إن السودان لا يُبنى على الدم، ولا يقوم على التفرقة، بل على الاعتراف بأن هذا الوطن مشترك بين الجميع، مهما اختلفت ألوانهم، ولهجاتهم، ومعتقداتهم. كما قال الله: “وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان”. وما قامت به الحركة الإسلامية كان قمة الإثم، وأقصى صور العدوان.
فكيف يستقيم الظل والعود أعوج؟ كيف تُرجى البركة من فكرٍ قام على الحقد والإقصاء، ومن مشروعٍ لم يعرف الرحمة؟ إن مَن ربّى النشء على كراهية الآخر، لن يجني إلا الخراب. ومن أقام دولته على السلاح، لن يصمد أمام كلمة حق. ومن ظن أن الله يرضى بالدم، فقد جهل دينه، وضلّ عن السبيل.
اليوم، علينا أن نعيد بناء السودان على أسس جديدة: عدالة، شراكة، مساواة. وطن لا يُقصي أحدًا، ولا يُصنّف أبناءه حسب قبائلهم ولا ألوانهم. وطن يعرف أن “الناس سواسية كأسنان المشط”، كما قال المصطفى ﷺ، وأن مكارم الأخلاق هي التي تبني الأمم، لا الشعارات الجوفاء.
ولنا في التراث الشعبي ما يعيننا، فقد قال أجدادنا: “البلد البتفرق ما بتتقدّم”، وقالوا: “الضُل ما بمشي قبال العود”. وها نحن نعيدها بلسان حالنا: كيف يستقيم الظل، والعود اعوج؟