رأي

مقاربة بين جذور ثقافة الوعي ومنطلقات الوعي الثقافي ودورهما في بناء المجتمعات: السودان بعد الحرب نموذجاً

صالح السليمي

تُعَدُّ ثقافة الوعي إحدى الركائز الأساسية في تشكيل المجتمعات وصياغة وجدانها العام، وهي تنبع من جذور عميقة تمتد في التاريخ واللغة والدين والتقاليد المحلية، فيما تمثل منطلقات الوعي الثقافي البُعد الديناميكي الذي يُترجم تلك الجذور إلى أدوات فعّالة في التغيير الاجتماعي. وبين الجذور والمنطلقات يتشكل الدور الحيوي للوعي في إعادة بناء المجتمعات، كما هو الحال في السودان الذي يرزح تحت تبعات حرب أهلية مدمرة.

أولاً: جذور ثقافة الوعي

تتمثل جذور ثقافة الوعي في العناصر الثابتة التي تشكّل البنية الثقافية للمجتمع. في السودان، تتجلى هذه الجذور في الإرث الصوفي والديني، والتقاليد الشفهية، وتاريخ المقاومة ضد الاستعمار، والروابط القبلية والريفية. ورغم التعدد الإثني واللغوي، إلا أن هنالك قواسم مشتركة أنتجت وعياً مجتمعياً يقوم على قيم مثل الفزعة، والضيافة، والتسامح.

لكن هذه الجذور ظلت مشوشة نتيجة الاستخدام السياسي لها، خاصة من قِبل الأنظمة الشمولية والإسلاموية التي أعادت إنتاج الهويات بشكل قسري، ما أدى إلى اختلال في مركزية الوعي الثقافي وتحويله إلى أداة للهيمنة لا للتحرر. فبدلاً من أن تكون الثقافة جسراً للتلاقي، صارت أداة لتكريس الانقسام.

ثانياً: منطلقات الوعي الثقافي

الوعي الثقافي لا ينبني فقط على ما هو موجود، بل على كيفية النظر إليه وتوظيفه. وهو بذلك يستند إلى منطلقات تتعلق بحرية التفكير، ونقد الذات، والانفتاح على الآخر، وإعادة تعريف الهوية في ضوء التعدد لا الإنكار. في السياق السوداني، فإن الوعي الثقافي المنشود ما بعد الحرب يجب أن ينطلق من مراجعة شجاعة لتاريخ الدولة القومية، وفشل النخب في بلورة مشروع وطني جامع، ومن ثم تبني خطاب ثقافي يتجاوز خطاب الضحية والجلاد إلى خطاب التعافي الجماعي والمصالحة.

ثالثاً: الوعي ودوره في بناء المجتمعات – السودان بعد الحرب نموذجاً

يلعب الوعي الثقافي دوراً محورياً في إعادة بناء المجتمعات الخارجة من الحرب، من خلال قدرته على إعادة تشكيل الذاكرة الجمعية، وتجاوز الحمولات السلبية المرتبطة بالعنف والجهوية والعنصرية. في حالة السودان، فإن الوعي يمثل مدخلاً ضرورياً لإعادة تعريف العلاقة بين المركز والهامش، وبناء سردية وطنية تتسع للجميع، بعيداً عن منطق الغلبة والوصاية.

إن بناء السودان ما بعد الحرب لا يمكن أن ينجح فقط عبر إعادة الإعمار المادي، بل يتطلب قبل ذلك إعادة إعمار الإنسان عبر تفكيك ثقافة الكراهية، وبناء ثقافة التسامح والنقد، والانفتاح على التنوع. وهنا يبرز دور المثقف، والإعلام، والمناهج التربوية، كأدوات لإعادة غرس الوعي الجمعي بقيم الدولة المدنية، والعدالة الانتقالية، والمواطنة المتساوية.

خاتمة

إن المقارنة بين الجذور والمنطلقات في ثقافة الوعي تبيّن أن بناء المجتمعات لا يبدأ من الصفر، وإنما من قراءة نقدية لتراثها الثقافي وتوظيفه بما يخدم التقدم لا التراجع. والسودان اليوم، وقد تكشّف حجم الخراب المادي والرمزي الذي خلّفته الحرب، أحوج ما يكون إلى مشروع وعي ثقافي جامع ينطلق من جذوره الأصيلة ويعيد تشكيلها من منطلقات عقلانية وإنسانية لبناء مستقبل مشترك ومستدام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!