
“العنف نوعان: الأول عنف فيزيائي يكون بإلحاق الضرر بالآخرين جسدياً ومادياً وعضوياً. والثاني عنف رمزي مهذب يكون بواسطة اللغة، والهيمنة، والأيديولوجيات السائدة، والأفكار المتداولة. ويكون أيضاً عن طريق السب، والقذف، والشتم، والإعلام، والعنف الذهني”(1)
إذا أسقطنا العنف الرمزي على الواقع السوداني تأريخياً منذ الإستقلال وحتى يومنا هذا نجد أنه أحد أخطر أشكال السيطرة التي تمارسها النخب الاجتماعية والسياسية في السودان، فهو عنف غير مرئي في كثير من الأحيان، ويتسلّل إلى تفاصيل الحياة اليومية من خلال اللغة، والتعليم، والإعلام، والدين، ويعيد إنتاج التفاوت بأشكاله المختلفة الطبقية والعرقية والثقافية، من دون حاجة إلى عنف مادي مباشر.
ففي السياق السوداني، لا يمكن فهم العنف الرمزي بمعزل عن البنية التاريخية كما أسلفنا التي قامت على المركزية المفرطة لنخب بعينها، وتهميش الأطراف، من دارفور وكردفان والنيل الأزرق، إلى الشرق والجنوب سابقًا.
لقد تأسّس النظام السياسي والاجتماعي في السودان منذ الاستقلال على مفاهيم طبقية وعنصرية، تُعلي من شأن ثقافة بعينها على حساب ثقافات أخرى، وتُرسّخ نظرة دونية للآخر المختلف.
من أبرز أشكال هذا العنف:
* التمييز الجغرافي والثقافي: تُعامَل لهجات وهويات بعينها على أنها النموذج “القومي” أوالنموذج الذي يتمثل الدولة ، بينما تُهمّش الثقافات المحلية وتُقدَّم بوصفها “ريفية”، “بدائية” أو “ناقصة”. تُكرَّس هذه الرؤية في المناهج الدراسية والإعلام الرسمي، وحتى في الخطاب السياسي.
* التمثيل غير العادل: تُقصى المجتمعات المهمشة من مواقع إتخاذ القرار، وتُقدَّم رموزها غالبًا في الإعلام في أدوار نمطية، كرموز للعنف أو للجهل أو للفقر، دون الاعتراف بإسهامهم الثقافي أو السياسي أو الاقتصادي.
* قوانين التمييز الخفي: مثل ما يُعرف حديثًا بـ”قانون الوجوه الغريبة”، والذي يُطبَّق من قِبل الجهات الأمنية والعسكرية، ويستهدف الأشخاص بناءً على ملامحهم العرقية، ويُعيد إنتاج منطق التصنيف العنصري في الفضاء العام.
* الخطاب الديني المؤدلج: الذي يُستخدم لتبرير القمع، أو لإضفاء شرعية وصبغة دينية على سياسات الدولة، ما يُفرغ الدين من مضامينه الأخلاقية، ويجعله أداة للضبط الاجتماعي.
* التمنيط السلبي: الأحكام والأفكار المسبقة التي يتم وصم مجتمعات كاملة بها حتى يسهل إصدار الأحكام على هذه المجتمعات أو تبرير العنف تجاه المجتمعات بدون أي ضمير وبدون أدنى شعور بذنب تجاه هذا العنف (البجي من الغرب ما بسر القلب) وغيرها من السرديات التى سارت ولا زالت تسير على لسان بعض المجتمعات حتى صارت بمنزلة الثابت والمطلق الذي لا يقبل النقاش أو الجدال.
العنف الرمزي ليس مجرّد إنحراف أخلاقي أو فردي، بل هو بنية متكاملة يجب تفكيكها بوعي ثقافي شامل، يبدأ من إعادة النظر في مفاهيم الهوية الوطنية، والإعتراف بتعدديتنا العرقية والثقافية، والمطالبة بعدالة شاملة لا تقتصر على وقف الحرب، بل تشمل تفكيك جذورها الرمزية، وإرساء خطاب جديد، أكثر شمولًا وعدلًا وإنسانية.
المقال يتكئ على كتاب العنف الرمزي وهو بحث في أصول علم الإجتماع التربوي لبيير بورديو.
(1) حسن عالي، زرقة دليلة: مفهوم الفضاء والديناميات الاجتماعية من المنظور السوسيولوجي، مجلة دراسات، الجزائر، المجلد: 10، العدد: 02، ديسمبر 2021، ص (166).