
شهدت الساحة السودانية تطورات دراماتيكية ألقت بظلالها على الأزمة السياسية المستفحلة في البلاد، إذ مثلت فعالية نيروبي نقطة تحول كانت متوقعة، حيث تدفقت المياه بغزارة تحت جسر حكومة البرهان المتهالك، مضيفة بُعدًا جديدًا للمشهد السياسي المتأزم. وبينما تطرح مخرجات هذه الفعالية العديد من الحلول الممكنة، فإنها في الوقت ذاته تمثل خطرًا محدقًا إذا لم تستجب جماعة البحر والنهر بطريقة حاسمة وعقلانية. فالفرصة التي أتاحها اللقاء تستوجب على جميع الأطراف السودانية أن تدرك حجم المتغيرات الجديدة، وأن تستغلها في إطار حوار جاد يسهم في تجاوز الأزمة دون مزيد من التدهور.
لقد أفضت أحداث نيروبي إلى توقيع ميثاق لإعادة التأسيس، وهو ما يمكن اعتباره خطوة نوعية نحو إرساء أرضية لحوار بناء بين القوى المتنازعة. غير أن هذه الأرضية لا تزال في طور التكوين، إذ يتطلب نجاح أي مسعى سياسي جاد توافقًا أوسع ومواقف أكثر مرونة من جميع الأطراف. فالتحديات التي تواجه السودان اليوم تتجاوز حدود الصراع بين الحكومتين، لتصل إلى مفترق طرق حاسم يستلزم رؤية عميقة، وإرادة وطنية صادقة، بعيدًا عن التعنت الذي دفع البلاد مرارًا نحو متاهات عدم الاستقرار.
وفي ظل هذه المستجدات، يواجه السودان أول اختبار جدي لحكومة البرهان في بورتسودان. فهذا التحدي ليس مجرد أزمة سياسية عابرة، بل هو امتحان حقيقي لقدرة الشعب السوداني على الصمود أمام المحن، وإيجاد مخرج آمن من دوامة الأزمات المتراكمة. وإذا أخفقت الأطراف المعنية في تدارك الأوضاع الناشئة عن هذه التطورات، فقد يؤدي ذلك إلى احتمالات كارثية، أبرزها تفتيت السودان مجددًا، في ظل تصاعد الانقسامات الداخلية وهشاشة المؤسسات الوطنية.
إن العودة إلى حافة الهاوية بعد تجربة انفصال جنوب السودان تمثل جرس إنذار خطير يُقرع بصوت مسموع هذه المرة. فالسودان الذي لا يزال يعاني من تداعيات الانفصال الأول لا يمكنه تحمل عواقب فقدان المزيد من أراضيه أو تفكك كيانه السياسي. لذا، فإن القادة السياسيين مطالبون بتجاوز الحسابات الضيقة، والانطلاق نحو رؤية وطنية جامعة تُعلي من شأن الوحدة الوطنية، وتحول دون الانزلاق نحو سيناريوهات أكثر خطورة.
لكن الأخطر من ذلك كله، هو أن هذه التطورات خرقَت أكبر المقدسات السياسية في السودان، وتجاوزت أعظم التابوهات، وهي وحدة البلاد التي أضحت مهددة بشكل غير مسبوق. إن التعامل ببطء أو تردد مع متطلبات إعادة التأسيس على أسس عادلة ومنصفة، تستند إلى مبادئ المساواة والاحترام المتبادل، قد يؤدي إلى تعميق الانقسامات والتوترات، ما يجعل مستقبل السودان على المحك. لذا، فإن أمام السودانيين خيارًا مصيريًا: إما إعادة بناء الدولة وفق مبادئ حديثة تضمن الاستقرار السياسي والاجتماعي، أو الدخول في دوامة فوضى لا تُحمد عقباها.
إن مصير السودان اليوم ليس بيد طرف دون آخر، بل هو مسؤولية جماعية تتطلب شجاعة سياسية، وتنازلات متبادلة، وعقلانية في إدارة المشهد. فإما أن تكون هذه الأزمة فرصة سانحة لإعادة التأسيس والانطلاق نحو مستقبل أكثر استقرارًا، أو أن تكون بداية لانحدار جديد نحو الفوضى والانقسام. والمسؤولية في النهاية تقع على عاتق جميع السودانيين دون استثناء، لأن الوطن هو الإرث المشترك الذي ينبغي الحفاظ عليه، لا الساحة التي تُراق فيها الدماء بلا طائل.