
تأسيس التحالفات الاستراتيجية لا يُقاس بلحظة، بل يُقاس بعمق الرؤية التاريخية، وبمدى قدرتها على مقاومة التآكل من الداخل. ما شُيّد على مدى اثنين وأربعين عامًا من التراكمات الفكرية والسياسية والاجتماعية لا يمكن أن يُقوَّض بانفعال عابر أو بحسابات سطحية. نحن أمام كتلة تاريخية، لا مجرد تحالف؛ كتلة نُحتت من صخر الوعي العميق بأعماق الأزمة السودانية، بما يتجاوز لحظات الانفعال إلى بناء متماسك ممتد في الزمان.
حادثة شيراز، التي سكبت “المريسة”، لم تكن فعلًا معزولًا بقدر ما كانت عارضًا ثقافيًا كاشفًا. لقد فجّرت تلك اللحظة الرمزية كمًا هائلًا من التناقضات التي خلفها نظام الإنقاذ في المجتمع. ليست المريسة هي القضية، بل ما ترمز إليه: سحق التعدد، قمع الرموز الثقافية، ومصادرة الحق في التعبير عن الهامش كما هو، دون ترويض أو استيعاب قسري.
هنا بالضبط تتجلى رمزية النقد الذي وُجه. في نظر البعض، بدا وكأنه دفاع عن مشروب شعبي، لكن في جوهره كان دفاعًا عن مساحة الحرية والكرامة والحق في التنوع. لعلنا نستدعي هنا تجربة “فترة الحظر” في الولايات المتحدة (1920–1933)، حينما قررت دولة علمانية منع الكحول، فكان الناتج ارتفاع معدلات الجريمة المنظمة، لتعود الدولة وتتراجع عن القرار بعد إدراكها لنتائجه الاجتماعية العكسية. بل إن بعض الدول العلمانية مثل تركيا تفرض اليوم قيودًا على الكحول بدوافع سياسية أو أخلاقية، مما يكشف أن القضية ليست في الكحول بل في العلاقة بين الدولة والمجتمع: هل تُدار بالوصاية أم بالاعتراف؟
نحن لا نتحدث عن سائل في زجاجة، بل عن ثقافة بأكملها يُراد إلغاؤها باسم الطُهرانية الزائفة. ما فعلته شيراز، وإن بدا سلوكًا فرديًا، يعكس عمق التكوين النفسي والسياسي الذي صاغته دولة الإنقاذ. تلك الدولة التي جعلت من وزارة الشؤون الاجتماعية أداة لإعادة صياغة وجدان السودانيين على أساس الولاء والبراء، فصار المختلف يُطارد لا بالمنطق، بل بالإقصاء. هذه العقلية لا تزال تعيش بيننا، حتى فيمن يعتبرون أنفسهم من أبناء الثورة.
النقد الذي صدر، لم يكن لحظة انفجار عاطفي، بل ممارسة عاقلة تُعيد تعريف التحالف، لا تهدّده. فالنقد الداخلي هو ما يصنع المناعة ضد الانهيار، لا العكس. ومن ينتظر لحظة انهيار هذا التحالف، لا يدرك أنه يواجه مشروعًا بُنِي على الوعي لا على التوافقات المؤقتة. نحن ذاهبون فيه حتى نهاياته الكبرى، لأنه ليس مجرد توافق سياسي، بل هو نواة لتحول اجتماعي وثقافي جذري.
المواطنة، الديمقراطية، العلمانية، واحترام حقوق الإنسان، ليست شعارات تُستورد وتُعلّق، بل هي معارك تُخاض داخل المجتمع نفسه. هي نضالات بطيئة، متدرجة، ومؤلمة أحيانًا. لكنها الوحيدة القادرة على إنتاج سودان مختلف. لا نستعجل النصر، لكننا نراه. لا نخاف النقد، بل نعتبره شكلًا من أشكال الانضباط الذاتي.
نحن لا نقدّس الأشخاص، بل نراجع السلوك، ونقرأ الرموز، ونُمسك بجوهر التحولات. تحالفنا ليس عصبة مغلقة، بل فضاء نقدي حي. من لا يستطيع أن يُراجع نفسه، لا يمكنه أن يُصلح الواقع. ومن يعتقد أن جبهات النصر تقتصر على ميدان المعركة العسكرية، فهو غافل عن أن أخطر المعارك تُخاض في العقول.
وهكذا نمضي، لا تزعزعنا الحوادث، بل نُحسن قراءتها. لا تهزنا التناقضات، بل نُفككها. تحالفنا ليس لحظة، بل مسار. ليس اتفاقًا سياسيًا، بل فعلًا تاريخيًا ممتدًا. ننهل من النقد ما يحمينا من العطب، ونبني بالمراجعة ما يجعلنا أصلب. لا نخاف أن ننظر في المرآة، لأننا نثق أن التغيير لا يبدأ من الآخر، بل من الذات.
هذا هو سر صمودنا، وهذا هو درب تأسيسنا: نحو سودان لا يُدار بالوصاية، بل يُبنى بالوعي، ويُصان بالشجاعة