السودان بين شهرتين؛ كيف أحال إخوان السودان ألق ثورة ديسمبر المجيدة إلى رماد حارق”
عباس احمد السخي

الحلقة الأولى: ثورة ديسمبر المجيدة؛ حين أبهرت العالم ولامست وجدان الأمة
مدخل:
كان السودان، في ديسمبر من العام 2018، على موعد مع حدث فارق سيبقى محفورًا في ذاكرة التاريخ المعاصر، حينما خرجت جموعه في ثورة شعبية سلمية، مذهلة في تنظيمها، باذخة في رموزها، ومتفردة في مفاهيمها، لتعلن نهاية حقبة استبداد ديني وسياسي استمر لثلاثة عقود، طغى فيها الإسلاميون على كل شيء. كانت ثورة ديسمبر المجيدة نقطة ضوء ناصعة في ظلام حالك، واستعادت للسودان ألقه وكرامته بين الشعوب.
- ثورة القيم والمفاهيم الأخلاقية: حين نهض السودان بثوبه الشعبي
لم تكن ثورة ديسمبر مجرّد حراك احتجاجي ضد الغلاء والطغيان، بل كانت، في جوهرها، ثورة قيمية وأخلاقية أعادت تشكيل السلوك الجمعي للشعب السوداني. لقد تجلت فيها أسمى معاني التلاحم الوطني، والانضباط الثوري، والتكافل المجتمعي. شاهد العالم كيف كانت المواكب تُنظم بلا قائد مركزي، كيف حمل الثوار أعلام السودان لا رايات حزبية، وكيف كانت الجموع تنظف الشوارع بعد الاحتجاج، وتمنع التخريب، وتُطعم بعضها البعض في ميدان الاعتصام.
تلك القيم أدهشت المراقبين، حتى أن صحفًا دولية مثل واشنطن بوست ولوموند الفرنسية كتبت عن “السودان الجديد” بلغة الإعجاب والتقدير، ووصفت الحراك السوداني بأنه “درس في المدنية والسلمية”.
- صناعة الوجدان الجمعي؛ حين توحدت دارفور مع الخرطوم في قلب واحد
من أكبر منجزات ثورة ديسمبر أنها ضربت في عمق الجرح السوداني المزمن: الانقسام العرقي والجهوي. لقد أطلقت الثورة شعارات مثل: “يا عنصري ومغرور، كل البلد دارفور”، و“نحن البلد”، في إدانة مباشرة للتمييز الذي زرعه نظام البشير بين السودانيين. توحدت أعراق السودان في الميادين، سقطت الجهويات على عتبة القيادة العامة، وولد من رحم الاعتصام وعي جديد، جعل شباب نيالا وكسلا وكادوقلي يشعرون أن الخرطوم مدينتهم، كما لم يحدث من قبل. لم تطرح الثورة فقط شعارات وحدوية، بل أسست لمنهج قيمي يرى في التنوع قوة، وفي الشراكة الوطنية أساسًا للنهضة، وهو ما تجسد في مشاركة كل مكونات السودان في تشكيل حكومة انتقالية متعددة الخلفيات.
- التكافل الاقتصادي والتضامن المجتمعي: شعار (كان عندك خت، كان ما عندك شيل)
في ساحات الاعتصام، لم يكن أحد جائعًا. الناس تطبخ وتوزع الطعام، تقدم الماء والدواء. وقد رفع الثوار شعارًا بليغًا في معناها الإنساني العميق:
“كان عندك خت، كان ما عندك شيل”
هذا الشعار لم يكن مجرد عبارة عابرة، بل ممارسة حقيقية تعكس روح الاقتصاد التضامني الذي حلم به جيل ديسمبر. لقد شكلت هذه التجربة مختبرًا حيًا لنموذج اجتماعي اقتصادي يقوم على العدالة والتكافل، وتجاوز الفردانية التي فرضها النظام الرأسمالي الطفيلي الذي تبناه الإسلاميون.
- السودان في عيون العالم؛ من دولة منبوذة إلى شعب ملهم
خلال شهور قليلة من انتصار الثورة، خرج السودان من عزلته، وتقدمت دول العالم لمساندة ثورته. حيث ظهرت حكومة الدكتور عبد الله حمدوك بلغة مدنية راقية خاطبت بها العالم بندية وتفاؤل، ووجدت تجاوبًا فوريًا، فأُعيد دمج السودان في الاقتصاد العالمي، وبدأت خطوات عملية لإلغاء ديونه، وانطلقت مشاريع ضخمة من مؤسسات التمويل الدولية.
لقد استعادت الثورة سمعة السودان، بعد أن شوهها نظام الإسلاميين، وصار يُنظر إلى البلاد كأنها “معجزة مدنية” قادمة من قلب إفريقيا. تلك كانت ثمرة التضحيات، ونتاج النضج السياسي لشعب طال قهره لكنه لم يفقد البوصلة.
- الثورة في الإعلام العالمي: من الظل إلى صدارة التاريخ
وصفت كبريات الصحف العالمية، مثل الغارديان والنيويورك تايمز، الثورة السودانية بأنها “أعظم ثورات العصر الحديث”، وقال بعض المراقبين إنها تحدّت الثورة الفرنسية في عظمتها الأخلاقية وسلميتها المذهلة. تبارى الصحفيون والباحثون في تحليل أسباب تفوق هذه الثورة: شبابها المتعلم؟ سلميتها؟ وحدة مطالبها؟ نبل مقاصدها؟ لكنهم أجمعوا على أنها ثورة فريدة، تستحق أن تُدرّس في الجامعات.
خاتمة
لقد كانت ثورة ديسمبر المجيدة لحظة فاصلة في التاريخ السوداني، حيث تلاقت فيها أجيال وتوحدت فيها شعوب، وارتفعت فيها القيم فوق المصالح الضيقة، وأعيد فيها رسم ملامح السودان الذي نحلم به. لكنها أيضًا، وللأسف، لم تسلم من كيد أعدائها. فعلى الضفة الأخرى، كان الإخوان المسلمون يعدون العدة لاغتيال هذا الحلم الوليد.
في الحلقة الثانية، نتناول كيف تحالف الإخوان مع الدولة العميقة وفلول النظام البائد لإجهاض الثورة، وسردوا السودان إلى الهاوية عبر انقلاب مقيت انتهى بحرب إبادة في 15 أبريل 2023. سنعرض كيف نُسف المشروع الوطني، وتفكك التضامن، وتحول الألق إلى رماد حارق.
نواصل