
عانى السودان من حلقة موغلة في الشر، تعاقبت عليه أنظمة حكم موروثة عن الاستعمار، مارست الغوغائية والديماغوجية باسم الديمقراطية، وأخرى دكتاتورية أتوقراطية شمولية، طابعها السطوة والسيطرة والتسلط واحتكار العنف والارتهان للخارج، والتموضع الكامل في كل أشكال وأنواع الفساد، والانزلاق في مهاوي الطغيان والتجبر، وأذاقت الشعوب السودانية الذل والهوان والتنكيل والخسران المبين. سبعة عقود من الفشل منذ ما عُرف باستقلال السودان، كانت كلها تمرّغ البلاد في وحل التخلف والجهل والعنصرية البغيضة، وبات السودان يعاني من حالة انعدام الوزن السياسي، وحلت بشعوبه المتنوعة والمتباينة شظف العيش، وكل أنواع الفواجع والدواهي والبؤس والشقاء، وهو الوطن الزاخر بالموارد والمقدرات، والذي كان ينبغي أن يكون سلة غذاء العالم، ولكنه تحول لبلد مصاب بلعنة الموارد، لأن الأفكار جدباء، والإدارة موغلة في السوء، والفساد مستشري، والطغيان سائد.. وهي عوامل بالطبع لا تقود إلا لمزيد من الفشل، ونقص في الأموال والأنفس والثمرات، وفقدان الأمل والرجاء، واستشراء الظلم والفقر والجهالة والبطالة.. فكان وطن الخراب.
ورثنا مؤسسات خربة ينعق فيها البوم، وزعامات وقيادات مدنية وعسكرية هم كالبوربون، لم ينسوا شيئًا ولم يتعلموا شيئًا.. ظلوا يكررون نفس التجارب ويمارسون السياسات نفسها، وبالتالي تظل الأزمة تعيد نفسها في كل الحقب التي أعقبت خروج الاحتلال البريطاني.. أو كما يقول المثل الشائع: (كالمنبت لا ظهرًا أبقى ولا أرضًا قطع). فأورثونا وطنًا أدمن الصراعات السياسية والخصومات الطائفية، والانكفاءات العقائدية التي ظلت تستغل الدين، وتبحث عن حلول عالمنا المشاهد في عوالم غيبية، ونزق أيديولوجي تمظهر في الشيوعية المتموضعة في أقبية التاريخ.. فانحسرت العقلانية في مستنقع التزمت الفكري.
في خضم هذا التدحرج والتقهقر، برز السيد القائد حميدتي، الرائد الذي لا يكذب أهله، انحدر من بسطاء وعوام هذا الشعب، مسلح بحكمة ومتوشح ببصيرة أدركت واستوعبت تطلعات الشعوب السودانية. ليس يساريًا ولا يمينيًا، ليس إسلاميًا ولا ماركسيًا ولا طائفيًا، متدين بلا تطرف.. سوداني بلا تمييز، استطاع تشخيص الحالة السودانية كنطاس قدير، ما وضع مبضعه على داء إلا كان موفقًا، يبدو مسنودًا بالعناية الإلهية، قوي الحجة، ينضح بالحكمة، يتمتع بكاريزما الزعماء ورواد التغيير، كأنه موسم من الضوء وربيع من الأمل، شخصية كأنها معطونة في الإدراك، قراراته عقلانية، يتسم بطموح واعٍ وحماس مرشد، ويملك شجاعة الاعتراف بالخطأ والرجوع والتصويب، كما فعل في انقلاب 25 أكتوبر 2021م، والانحياز الكامل للشعب، واعتلاء هرم الثورة، وامتشاق سيف النضال لصد اعتداءات ميليشيات جيش الفلول ضد ثورة الشعب الباذخة، بإشعالهم لحرب أبريل، لأن الجيش ظل أداة طيعة لخدمة أجندة الدولة المصرية والمتآمرين، لتطويع وتركيع الشعوب السودانية، ولكن هذه المرة وجد نفسه أمام قوات تحرر وطني، مسلحة بوعي فكري وسياسي تجاوز كل حركات التحرر التي لم تعدُ كونها حركات احتجاج، ظلت تدور في فلك ذات المفاهيم القديمة، وهو ما يبرر وقوف معظمها مع الجلاد، وما ينفي في الوقت نفسه أي حجية عن كونها ظلت تطالب بحقوق ضحايا التهميش التنموي والسياسي.
برز رائد التحرير هذه المرة من رحم الهامش، يحمل لواء التغيير والإصلاح في وطن ظلت تتقاذفه الصراعات والحروب وعدم الاستقرار السياسي، وأفلح تمامًا في رسم مسار للثورة السودانية، بعيدًا عن كل الشعارات التي تضج بالزيف. لا سيما وإن ديسمبر الباذخة ثورة عظيمة بكل المقاييس، رغم تربص الأعداء وكيد قوى الردة، وقد أوقدت بعزائم وتضحيات الشباب وقوات التحرر الوطني الأشاوس، الذين قدموا دروسًا في التضحية والنضال والاستبسال والجسارة. كلما حاول الأعداء إخمادها، أحرقوهم بها، وصار أمر الثورة والتحرير والتأسيس فاشيًا وماضيًا نحو غاياته في بناء دولة مدنية فدرالية علمانية، قادرة على توظيف موارد ومقدرات وثروات الوطن لصالح شعوبه ورفاهها.