
خلال نقاشي مع الدكتورة حياة عبد الملك حول مفهوم الحكم المدني،، لم أكن أتوقع أنني سأجد نفسي في مواجهة ذلك النوع القديم المتجدد من الفهم الانتقائي،، والذي لطالما استخدمه الاسلامويون كأداة تشويش وتشويه للمفاهيم،، لكن حياة،، وهي تمثل هذه المدرسة بامتياز،، تجاوزت حدود الالتباس إلى ما يمكن تسميته بوضوح تام الفهم المغلوط عمدا
قالت لي حياة،، بنبرة حاسمة،، وهي تحاول الدفاع عن الاسلامويين وتبرئة تجربتهم
(الكيزان كانوا مدنيين،، وإلا فأنتم لا تعتبرون المدنية إلا فيمن يشرب الخمر ويرتكب الفاحشة)
هذا النوع من المقارنات،، الذي يحصر المدنية في الأخلاق الشخصية،، ليس جديدا،، إنه جوهر الحيلة التي يلجأ إليها الاسلاموي عندما يعجز عن تبرير فشل نظامه في بناء دولة القانون،، فيلجأ إلى قلب المعادلة وتحويل النقاش من الحديث عن مؤسسات ومساءلة وحقوق،، إلى ملابس الناس وسلوكهم الشخصي
وهنا نبدأ في تفكيك المعنى الحقيقي لحديث الطرش الذي تمارسه حياة،، كامتداد صريح لخطاب الاسلاموي ذي الحنجرة الكبيرة والذاكرة الانتقائية
فالمدنية التي نتحدث عنها لا علاقة لها بسلوك الأفراد في بيوتهم،، ولا بنوعية المشروبات على موائدهم،، المدنية تعني أن تكون الدولة خاضعة للقانون،، وأن تكون السلطة منتخبة،، وأن تكون مؤسسات العدالة مستقلة،، وأن يتمتع المواطن بحقه دون النظر إلى لونه أو دينه أو فقره أو جغرافيته
أما اسلاموي حياة عبد الملك،، فقد حكم السودان ثلاثين عاما باسم الدين،، فماذا فعل،، باع الجنوب قتل المتظاهرين قصف القرى بالطيران استباح الجامعات عذب النساء ملأ السجون نهب البنوك زور الانتخابات وحول أجهزة الدولة إلى شركات خاصة لأبناء التنظيم
والأدهى من ذلك أنهم بدأوا حكمهم على ظهر دبابة بقتل طبيب بمسمار في الرأس،، وانتهوا بإدخال سيخة في دبر معلم في المعتقل،، مروا في منتصف الطريق بجرائم لا تُعد ولا تُحصى،، وكأنهم يتنفسون العنف ويقتاتون عليه،، عشقوا القتل في شهر رمضان تحديدا،، وكأنه موسم مقدس تُنحر فيه قرابين الدم السوداني،، فمن ضحايا سبتمبر إلى شهداء القيادة العامة،، دائما ما ارتبط رمضان في عهدهم بالمشانق والرعب،، وهذا من أكثر ما يثير استغراب الناس،، كيف لمن يرفع شعار الدين أن يحتفي بالمجازر في شهر الصيام والتراحم،، ففي ٢٧ رمضان دفنوا زملاءهم أحياء،، وحتى هذه اللحظة لا أحد يعرف أين قبورهم،، ولا كيف مارس القتلة طقوس (الدفن) تلك،، ولا أي دعاء فاسد قرؤوه فوق جماجم الشهداء
لكن المفارقة،، والمفارقة هنا مؤلمة حد السخرية،، أن السيدة حياة عبد الملك نفسها تعيش في لندن،، تحت حماية قانون مدني حقيقي،، لا يسألها عن شالها،، ولا عن عروبتها،، ولا عن قبيلتها،، لم تتعرض للتنمر الشكلي هناك،، ولا للاضطهاد العرقي،، ولا لسؤال أمني يطلب منها تعريف وجهتها أو مذهبها
تحتمي حياة بمنظومة قانونية صلبة توفر لها الأمن والكرامة،، ثم تأتي بكل هدوء لتدافع عن منظومة الاسلامويين الذين مارسوا أبشع أنواع العنصرية والتمييز والتسلط على أهل دارفور وجبال النوبة وشرق السودان
إن ممارسات الاسلامويين التي تنظر إليها حياة بعين الرضا،، لا تختلف كثيرا عن أنظمة الاضطهاد المنهجي التي عرفها العالم،، من الأبارتهايد في جنوب أفريقيا،، إلى أنظمة الطبقية الجاهلية حيث كان الامتياز حكرا على من ولد في قريش،، أو على من ينتمي إلى العشيرة الحاكمة
لقد أعاد الاسلامويون إنتاج نظام عنصري مقنع بالدين،، يحدد موقعك في الدولة بحسب اسمك،، لونك،، ولهجتك،، وليس بحسب كفاءتك أو مواطنتك،، وهذا هو عين ما تبرره حياة عندما تختزل المدنية في سلوك الأفراد،، وتتغاضى عمدا عن البنية القمعية التي قام عليها نظام الحركة الاسلامية
هل كانت حياة ستحتمل يوما واحدا من التنمر لو كانت في الخرطوم،، سوداء من كتم،، أو طالبة من نيالا،، تمشي في حي كيزاني بملامح لا تنتمي إلى خرائط الجلابة
هل كانت لتُقبل في التلفزيون الرسمي بلكنتها،، أو تُسمح لها بالمشاركة في المؤتمرات ما لم تُخضع صوتها ومظهرها لمزاج زملائها الاسلامويين
إنها مفارقة صارخة،، أن يدافع من يتمتع بامتيازات مدنية الغرب،، عن دولة دينية مارست التحقير والاستبعاد ضد كل من لا يشبه المركز
والأدهى أن هذا الدفاع لا يتم من باب الاعتراف بالتقصير،، بل عبر خطاب استعلائي بليد،، يشبه إلى حد كبير ما تعلمناه من مدرسة إسحق غزالة،، حيث يصبح الانتماء للتنظيم بديلا عن الأخلاق،، والصوت العالي بديلا عن الحجة،، والماضي المصطنع بديلا عن الواقع المنهار
الاسلاموي صاحب الحنجرة الكبيرة لا يسأل نفسه من الذي قسم البلاد،، ومن الذي خرب الاقتصاد،، ومن الذي باع ميناء بورتسودان،، ومن الذي تواطأ مع الفساد،، ومن الذي شرعن المليشيات،، ومن الذي استخدم القضاء كسكين انتقامي
بل يأتي ليحدثنا عن شرف لم يمنعهم من سرقة وطن بأكمله
السيدة حياة،، وهي تدافع عن هؤلاء،، تقدم خطابا لا يخدم إلا القتلة،، خطابا يزين الجريمة ويخاف من مواجهة الحقيقة،، خطابا يخدع ضحاياه مرتين،، مرة عندما يقتلهم،، ومرة عندما يدافع عن قاتليهم
إن معركتنا ليست ضد الدين،، بل ضد من اختطفوه
وليست ضد الأخلاق،، بل ضد من استخدموها كغطاء للنهب والقمع
نحن نطالب بدولة قانون،، تحمي حتى حياة عبد الملك نفسها،، عندما تختلف معنا،، لكننا لن نسمح لها أن تختصر كل هذه المعركة في ثوب امرأة،، أو كأس شراب،، أو حكم على النوايا
المدنية لا تعني أن تكون طاهرا في سلوكك فقط،، بل أن تكون خاضعا للقانون
والاسلامويون،، بمن فيهم من دافعت عنهم يا حياة،، كانوا فوق القانون
manal002002@gmail.com