
جلس أحمد بابكر عند عتبة منزله المدمر، يحدق في الفراغ بعينين زائغتين، وكأنهما تبحثان عن شيء ما ضاع في هذا الخراب. لم يكن المكان كما كان من قبل، ولم يكن هو نفسه أحمد الذي كان يملأ البيت ضحكًا وأحلامًا. منذ عام فقط، كان يجلس في ذات الزاوية، يراجع دروسه استعدادًا لامتحان الشهادة الثانوية، يحلم بارتداء معطف الطبيب، ويحلم أكثر بأن يرى والده يبتسم له بفخر، لكن المرض كان أسرع من الحلم، فخطف والده في لحظة قاسية، وترك في قلبه فراغًا لا يملؤه سوى العهد الذي قطعه على نفسه: “سأدرس الطب وأحارب السرطان اللعين.”
لكن الحرب لا تكتفي بسرقة الأرواح، بل تمتد بأذرعها لتخنق الأحلام أيضًا. عندما عرف أن طلاب نيالا محرومون من الجلوس للامتحان، لم يصدق أحمد الخبر في البداية. كيف يمكن أن يُحرم من حلمه؟ كيف يُمنع من أداء واجبه لأن مدينته محاصرة بالقصف؟ كيف يقرر شخص جالس في مكتب بعيد، في مدينة لم يزرها يومًا، أن يحرمه من مستقبله فقط لأنه من نيالا؟
في البداية، حاول المقاومة، حاول أن يكتب، أن يناشد، أن يصرخ، لكن الصوت ضاع في الفراغ، تمامًا كما ضاعت أحلامه. شيئًا فشيئًا، بدأ الإحباط ينهش روحه. لم يعد أحمد يخرج كثيرًا، لم يعد يفتح كتبه، ولم يعد يتحدث عن الطب. صار ينام لساعات طويلة، ثم يستيقظ ليحدق في سقف غرفته، أو في الأفق البعيد، حيث لا شيء سوى رماد الحرب.
“أحمد، تعال تناول طعامك.” كانت والدته تناديه، لكن صوتها بدا له وكأنه قادم من عالم آخر. لم يكن يشعر بالجوع، لم يكن يشعر بأي شيء. كل ما يعرفه أن هناك ثقلًا يجثم على صدره، وأن رأسه ممتلئ بضجيج لا يتوقف. كان يسمع همسات في داخله، كلمات والده وهو يقول له ذات يوم: “أريدك طبيبًا، أريدك أن تعالج المرضى الذين لم أجد لهم دواءً.” لكن ماذا يفعل الآن بعد أن أُغلقت الأبواب في وجهه؟
في إحدى الليالي، خرج أحمد من المنزل، مشى بلا هدف، حتى وجد نفسه عند أطلال مدرسته. كانت النوافذ محطمة، والجدران مليئة بثقوب الرصاص. وقف هناك، وأغمض عينيه، وتخيل نفسه في الفصل، بجانب أصدقائه، يرفع يده للإجابة عن سؤال المعلم، يكتب معادلات الكيمياء، يناقش دروس الأحياء. لكن عندما فتح عينيه، لم يجد سوى الفراغ.
ركع على الأرض، وأخذ حفنة من التراب بين يديه، وسالت دموعه بصمت. في تلك اللحظة، أدرك أن الحرب لم تأخذ والده فقط، بل أخذت منه مستقبله، أخذت روحه. جلس هناك طويلًا، لا يعرف كيف يعود إلى حياته، أو إن كان هناك شيء يستحق أن يعود من أجله.
لكن في داخله، في أعمق نقطة من حزنه، كان هناك صوت ضعيف، صوت لم يمت بعد. ربما لم يستطع أن يصبح طبيبًا هذا العام، وربما سُرق منه حلمه، لكن هل هذا يعني أنه انتهى؟ لا، لم يكن هذا ما يريده والده، ولم يكن هذا ما يريده هو. نهض أحمد ببطء، مسح دموعه، ونظر إلى مدرسته المحطمة، ثم همس لنفسه بصوت مرتجف لكنه قوي:
“لن أستسلم، سأجد طريقًا.”