رأي

كامل إدريس ومتاهة السلطان

صالح السليمي

عندما أعلنت حكومة الأمر الواقع في بورتسودان تعيين الدكتور كامل إدريس رئيسًا للوزراء، كان الهدف المعلن إحداث اختراق سياسي يعيد شيئًا من التوازن ويمنح البلاد أملًا في مخرج وسط الحريق الشامل الذي التهم الوطن. بدا القرار حينها وكأنه مناورة محسوبة لإقناع الداخل والخارج بأن هناك مساعٍ للتهدئة وإعادة البناء السياسي. لكن سرعان ما خفت بريق تلك اللحظة، إذ مضت الأيام، وتوالت الأسابيع، دون أن يفلح إدريس في تشكيل حكومة، الأمر الذي كشف هشاشة المبادرة وعجزها عن مجاراة تعقيدات اللحظة السودانية الراهنة.

ووسط هذا الإنسداد، ظهر أن الدكتور كامل إدريس، رغم ما يُشاع عن خبرته دولية أكاديمية، يواجه صعوبات مترامية الأطراف في فهم الواقع المتشابك، ناهيك عن تغييره. فقد اختار الرجل أن يبدأ مسيرته التنفيذية من حيث تشير عليه بوصلة الفريق أول عبدالفتاح البرهان، وبالأخص من محطة “بل بس”: الحرب هي الحل. وكأن إدريس لا يدرك أن هذه المحطة قد استُنفدت، لا من حيث فشلها فقط، بل من حيث افتقادها لأي مشروعية سياسية أو استراتيجية. فالحرب في السودان اليوم ليست وسيلة لحسم أو بناء، بل هي أداة للتمزيق الشامل وانهيار الدولة من داخلها.

كان الأحرى بالدكتور إدريس، وهو القادم من عالم القانون والحوكمة الدولية، أن يضع يده على الجرح مباشرة، وأن يعلن بوضوح أن أولويته هي وقف الحرب لا إدارتها، ومعالجة مسبباتها، لا التحايل عليها. إن الحرب في السودان ليست خلافًا على سلطة عابرة، بل نتيجة مباشرة لانهيار في منظومة الدولة، وتآكل في الشرعية السياسية، وتمركز للثروة والسلطة في يد قلة. تجاهل هذه الجذور لا يقود إلا إلى تكرار الفشل.

لقد ارتضى كامل إدريس أن يكون رئيسًا لوزراء ديكوري، في لحظة حرجة لا تحتمل الزينة والرمزية، بل تتطلب قيادة فعلية، وعقلاً جادًا، وخيالاً سياسيًا قادرًا على تجاوز المكايدات والمزايدات. البلاد اليوم لا تحتاج إلى المزيد من الشعارات، بل إلى خطاب جديد يعترف بحجم الكارثة، ويقترح حلولًا غير تقليدية تُخاطب جذور الأزمة لا مظاهرها.

والمفارقة أن مكتب رئيس الوزراء انشغل أمس بنفي ما تداولته بعض المواقع حول تشكيل الحكومة وخطط إدريس المرتقبة، واصفًا الأخبار بالزائفة والمضللة. لكن الحقيقة أن هذا النفي لم يبدد الشكوك، بل زاد من الإحساس العام بأن الأمور تراوح مكانها، وأن مشروع الرجل لا يزال بلا ملامح. والأدهى أن المكتب اكتفى بمطالبة الإعلام بتحري الدقة دون أن يقدم بديلًا يُطمئن الناس أو يوضح رؤيته للخروج من النفق.

في الواقع، مشكلتنا في السودان لم تكن يومًا غياب الحكومة، بل غياب الإرادة السياسية لحل المشكل. إرادة تواجه الحقيقة كما هي: بلاد تحترق، وشعب يتشظى، واقتصاد ينهار، وجيشان يتنازعان سلطة فقدت كل سند. فهل يكفي في ظل هذا المشهد أن نقف عند حدود إنكار الشائعات؟ أم أن المطلوب هو إعلان جريء يعترف بالفشل ويبدأ من جديد؟

لقد دخل كامل إدريس متاهة السلطان بإرادته، وربما بحسن نية، لكنه اليوم أمام مفترق طرق: إما أن يتحول إلى جزء من المعادلة المأزومة التي تدير الحرب وتُطيل أمدها، أو أن يقرر أن يُحدث فرقًا حقيقيًا، ويخوض مغامرة صعبة لكنها ضرورية: مخاطبة جذور الحرب، والدعوة إلى حوار سياسي شامل، يبدأ من إيقاف النزيف، ويصل إلى إعادة تأسيس السودان.

الوقت لا يسعفه كثيرًا، والبلاد لا تحتمل مزيدًا من المناورات. فهل يفعلها الرجل؟ أم يبتلعه الديكور؟

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!