رأي

بين اعتذار الوعي وسقوط المشروع تعقيب على مقال د. الوليد مادبو: “في رثاء الحركة الإسلامية السودانية”

د. أحمد التيجاني سيد أحمد

مقدمة

في مقاله “انكسار الجناح الأيمن: في رثاء الحركة الإسلامية السودانية”، قدّم الدكتور الوليد آدم مادبو شهادة جريئة ومؤلمة في آنٍ معًا.

شهادةٌ تتأرجح بين الحنين إلى بداياتٍ أخلاقية ونزيهة، وبين الاعتراف المرير بسقوط سياسي وأخلاقي ماحق. لقد كتب مادبو من موقع “الناقد من الداخل”، المُحب الذي يُدميه ما آلت إليه الحركة، دون أن يفقد ثقته في الأصل، أو أمله في الإصلاح.

أما أنا، ومن واقع تجربةٍ عميقة وعشرة عمر مع بعض رموز تلك الحركة، فلي شهادة من نوع مختلف. ليست شهادة من الداخل فحسب، بل شهادة انسلاخٍ فكري وأخلاقي عن المشروع نفسه — مشروع ظن أصحابه أن الله قد فصل لهم ثوبًا خاصًا، فأطلقوا أيديهم على البلاد والعباد، حتى اختنق الناس باسم الدين.

الإنكسار أمرٌ طبيعي… حين يكون الغرور مقدسًا

الإنكسار أمرٌ طبيعي لدى الحركات الشمولية، خاصةً تلك التي ترتدي أزياء يعتقد أصحابها أن الله قد فصلها لهم على مقاسهم!

لي صحبةُ عمرٍ مع من وثقوا بالحركة الإسلامية وارتدوا ثيابها. وكلما توطدت بيننا الثقة، وكلما عشت واختبرت تجاربهم عن قرب، ازددتُ يقينًا بخطأ ما أقدموا عليه. لقد بدأ الأمر — عند غالبيتهم — بنوايا صادقة لتقويم السلوك الذاتي، لكنه سرعان ما تطوّر إلى استغلال نفوذ استولَوا عليه بالخداع أو بالقوة. وكما قال حسن الترابي عنهم: “فجأةً تحولوا من دُعاةِ سلوكٍ قويم إلى أثرياء مترفين… إلى حرامية ولصوص وقتلة”!

أنا لا أؤمن بالتوجّه الإسلامي كـ”مشروع سياسي أو فكري”. يكفيني أنني مؤمنٌ، مسلم، قادرٌ على الاستماع للقرآن أو قراءته. يكفيني سنوات التكوين التي قضيتها مع كبار المتصوفة، أو غيرهم ممن يؤدون الفرائض كما يجب، أو كما تسمح لهم بها ظروفهم. لا أحد يحتكر الطريق إلى الله.

الدعوة، حين تتحوّل إلى مشروع سلطة، تضر بالإسلام كما أضرّت بكل المعتقدات عندما اختُطِفت باسمها. ولا أدري كيف لا يرى المسلمون ما هو واضــحٌ في النصوص، وخاصة في خطبة الوداع للرسول ﷺ ، حين قال: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا.

لم يشــــــغل النبي ﷺ نفسه أثناء تلك الخطبة بتعيين ولاة أو مسؤولي سلطة، بل ركّز على الوصايا الكبرى: حرمة الدماء، وأمانة الرسالة، والمساواة، والعدل، ووصية النساء.

إن أخطر ما يُصيب الدعوات الدينية حين تتحول إلى أدوات حكم، هو أنها تُفرّغ الدين من جوهره الأخلاقي والروحي، وتُلبسه ثوبًا من شعارات الجهاد والتمكين، بينما تتحول قياداتها إلى مستبدين أو فاسدين، يتخذون من القداسة غطاءً للبطش والثراء الفاحش.

بين مادبو والفكرة… وأنا والتجربة

الدكتور مادبو يرفض تحالف الإسلاميين مع العسكر، لكنه لا يرفض المشروع من حيث هو

أما أنا، فأرى أن الإنهيار لم يكن إنحرافًا عارضًا، بل نتيجة حتمية لمنهج يقوم على الوصاية باسم الدين.

لقد سقط المشروع الإسلامي، لا لأنه خان مبادئه، بل لأنه كان مشروعًا سلطويًا مقنّعًا منذ البداية.

كان خطابًا أخـــــــــلاقيًا ناعمًا يخبئ وراءه طموحًا للحـــــــكم، ولم يكن عابرًا أن يتحوّل أولئك “الدعاة” إلى أباطرة المال والعقارات، وسدنة الأمن والقمع.

إن تجربة السودان، كما غيره من بلاد “التمكين”، أظهرت أن ربط الإسلام بالدولة لا يُنتج عدلًا ولا طهارة، بل ينتج فسادًا مقدّسًا، وطبقة جديدة من المستغلين الذين ينهبون وهم يسبّحون، ويقمعون وهم يُكبّرون.

خاتمة: ما بعد الانهيار؟

لا يحتاج السودان إلى ترميم المشروع الإسلامي، بل إلى تفكيكه، وفك الاشتباك بين الدين والدولة

نحتاج إلى مشروع وطني أخلاقي، مدني، لا يحتكر الحقيقة، ولا يرفع شعار “من لم يكن معنا فهو ضد الله ”

نحتاج إلى عقد إجتماعي يعيد الاعتبار للمواطنة، لا للطائفة أو الولاية أو التنظيم السري

إن هذا الوطن لن يُبنى من جديد إلا على أساس الحقيقة، لا المجاملة

وبقدر ما أقدّر شجاعة د. الوليد، فإنني أدعو إلى قطيعة معرفية مع هذا المشروع، لا مجرد نقدٍ له. فقد جُرِّب، وسقط، وخذل من آمنوا به… ولا خلاص دون الاعتراف بأن الدين لله، والوطن للجميع

مع تحياتي،

د. أحمد التيجاني سيد أحمد

عضو تحالف تأسيس

١٩ يونيو ٢٠٢٥ – روما، إيطاليا

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!