كامل إدريس رئيس حكومة منغوليا السودانية .. قراءة في خطاب الوهم والعزلة والانفصال عند كامل ادريس
عباس احمد السخي

متلازمة داون .. بوصفها مدخلًا لفهم عزلة التفكير السياسي عند كامل
تُعرف متلازمة داون (المنغولي) كما يتعارف عليها في السودان، بأنها حالة جينية تنتج عن خلل في الكروموسومات، وتؤثر على تطور الدماغ والجهاز العصبي، ما يؤدي إلى تفاوت ملحوظ في القدرات الذهنية والاجتماعية. لكنّ اللافت في هذه الحالة أن أصحابها ليسوا بالضرورة أقلّ كفاءة في كل شيء، فبعضهم يتمتع بقدرات خارقة في مجالات محددة مثل الحساب أو تمييز الأنماط أو الإبداع الفني. غير أن السمة الأوضح لمتلازمة داون هي الانفصال الجزئي أو الكلي عن المحيط الواقعي، وخلق عالم داخلي خاص يتفاعل فيه المصاب مع رموزه ومعانيه الخاصة، دون كثير اهتمام أو وعي بالعالم الخارجي.
ويبدو أن هذه السمة النفسية والمعرفية، رغم بعدها عن السياسة، قد تُستخدم – استعاريًا – في تحليل بعض السلوكيات السياسية الغريبة، التي تتسم بانفصال كامل عن الواقع السياسي والاجتماعي والإنساني، ومن ذلك خطاب الدكتور كامل الطيب إدريس، الذي ظهر به بوصفه رئيسًا لحكومة مرتقبة في السودان، دون أن يظهر عليه أي قدر من الإدراك الفعلي لحجم الكارثة الوطنية التي تمر بها البلاد، أو فداحة الحرب التي مزقت النسيج الاجتماعي وماتزال تنذر بما هو أفظع.
في خطابه الأخير، بدا كامل إدريس وكأنه قد انفصل عن العالم الحقيقي بكل ما فيه، وراح ينشئ عالمًا جديدًا من مفردات التنمية والرؤية والنهضة الشاملة، دون أدنى إشارة لما يحدث في السودان من قتل وتشريد وتجويع وانهيار. ومن هذه الزاوية فقط، يمكننا استعارة تحليل متلازمة داون لفهم منطق الخطاب السياسي للرجل.
وهم النهضة في بلاد تنهشها النيران
في خضم حرب شاملة دمرت ثلثي بنية السودان التحتية، وهجّرت أكثر من خمسة وعشرين مليون مواطن، وجعلت العاصمة الخرطوم حطامًا لا يمكن التعرف عليه، طلّ كامل إدريس على الناس بخطاب لا علاقة له لا بالحرب ولا بالسودان، ولا حتى بالواقع القريب أو البعيد. لقد تحدث بلغة براقة عن “حكومة تكنوقراط”، و”نقلة اقتصادية”، و”مشروعات استراتيجية”، و”فرص استثمار”، وكأنّه لا يعلم أن 75% من سكان السودان في أراضي خارجة عن السيطرة حكومة بورتسودان، وأن العاصمة التي يُفترض بها أن تستضيف حكومته “الموقّرة” قد صارت أطلالًا مقفرة.
والمؤلم في خطاب إدريس، ليس فقط انفصاله عن السياق، بل تجاهله المتعمد للحرب، وكأنها لم تحدث، أو أنها أمر ثانوي لا يستحق الذكر. لم يذكر الضحايا، ولا اللاجئين، ولا المدارس المدمرة، ولا المشافي المغلقة، ولا انقطاع الكهرباء والدواء والماء، ولا حتى الجوع الذي يهدد ملايين السودانيين. وكأنّ كل ما يعنيه من الوطن، هو ذلك الخطاب السياحي الذي تعلّمه حين كان في منظمة الوايبو، والتي خرج منها لاحقًا بفضائح فساد وتزوير لا تليق برجل يُراد له أن يكون رمزًا للنزاهة.لقد قال الرجل كل شيء عن كل شيء، إلا السودان.
حكومة منغوليا السودانية… حلم في خيال كامل
حين يتحدث كامل إدريس عن حكومة، لا يدري المرء أهو يتحدث عن حكومة للسودان حقًا، أم عن كيان متخيَّل في مكان آخر. فحتى الآن، لا يعرف أحد من هم الوزراء الذين اختارهم، ولا أين مقر الحكومة، ولا كيف ستمارس سلطتها، ولا في أي بقعة من هذا الوطن الذي تتنازعه الجيوش والمليشيات. إن حكومة كامل إدريس هي أقرب إلى متلازمة ذهنية مغلقة لا صلة لها بالسياق الوطني أو السياسي، حكومة بلا حاضنة، بلا جغرافيا، بلا تفويض، وبلا حساسية سياسية تجاه الجرح المفتوح في قلب الشعب السوداني.
إن أي حكومة جادة، لا يمكن لها أن تبدأ بالحديث عن التنمية، قبل أن تتوقف الحرب. فلا استقرار سياسي دون أمن، ولا إعمار دون وقف إطلاق نار شامل، ولا شرعية لحكومة لا تواجه الكارثة أولًا، وتجمع حولها دعمًا شعبيًا ثانيًا. أما “حكومة التكنوقراط” التي يروّج لها كامل إدريس، فهي مشروع وهمي، لن يخرج من دائرة الخطابة، ولن يجد له موقعًا في أرض السودان، حتى لو كان الوزراء المختارون من أفضل العقول. فكيف لهم أن ينجحوا وهم فوق أرض تحترق، وفي شعب يعاني المجاعة والنزوح والجراح؟
وبهذا يمكن القول إن كامل إدريس لا يعيش معنا، ولا ينتمي سياسيًا إلى لحظتنا الراهنة. إنه يعيش في “منغوليا السودانية”، تلك البلاد التي لا وجود لها إلا في خياله، والتي لا تحوي حربًا ولا جراحًا ولا دمارًا، بل تحوي “رؤية” و”استراتيجية” و”أحلامًا وردية”.
إن خطاب كامل إدريس، بهذه القطيعة الكاملة عن مأساة الوطن، لا يؤهله إلا لشيء واحد: مصحّة سياسية، يُشخّص فيها حالته التي تجمع بين العزلة الذهنية والانفصال العاطفي والانفصام السياسي، ويُترك فيها إلى أن يعود الواقع إلى قلبه، ويستيقظ من حلمه العجيب.