
معلوم بالضرورة أن العلاقات بين الدول والشعوب تقوم عادةً على مبدأ الندية، والمصالح المشتركة، والمنافع المتبادلة، واحترام السيادة الوطنية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية… لكن علاقة مصر بالسودان تبدو غريبة جدًا جدًا، وهنا أقصد “مصر الرسمية” التي تنظر دومًا إلى السودان كدولة تابعة لها وتحت وصايتها، فظلت تسعى لإخضاع السودان لسيطرتها، بل تظن أن السودان لا يعدو كونه الحديقة الخلفية الملحقة بمصر…
الحكومات التي جاءت إلى سدة الحكم في مصر منذ الخديوية (الملكية) مرورًا بثورة الضباط الأحرار 1952م (مصر الجمهورية) ظلت تؤسس علاقاتها مع السودان بقدر حجم استغلال مياه النيل، وكانت كل حكومات مصر تقف ضد أي توسع زراعي يقوم على الري من نهر النيل، وخير دليل على ذلك معارضتها ووقوفها الشديد ضد قيام مشروع الجزيرة الذي كانت تعتبره مهددًا لأمنها المائي، لكنها تراجعت أمام إصرار إنجلترا على إنشاء المشروع لإنتاج الأقطان لمصانع النسيج بالمملكة المتحدة…
وحتى الاتفاقيات التي أُبرمت بشأن تقسيم مياه النيل في عامي 1929 و1959، كلها كانت مجحفة بسبب ظلم الحكومات المصرية وضعف الحكومات السودانية، المدنية منها والعسكرية. وما قيام السد العالي الذي أُقيم على حساب الخسائر الفادحة التي تعرض لها السودان – حيث تم تهجير أهالي مدينة وادي حلفا، وتم إغراق آثار الحضارة النوبية العريقة الضاربة في الجذور – من أجل قيام “سد القرن”، وللأسف حتى التعويضات الشحيحة التي تم الاتفاق عليها ضنت بها الحكومة المصرية ولم تلتزم بها.
السلوك القبيح والوحشي الذي تمارسه الحكومات المصرية في السودان قادها لاختراق المؤسسة العسكرية السودانية، والتي كانت ولا تزال “مخلب قط” للتدخل المصري السافر والجائر في الشأن السوداني الداخلي، وممارسة الوصاية والتعالي والغطرسة. وظلت تسعى لخلق أزمات كثيرة (لا يسع المقال لذكرها) وتؤجج الصراعات لتمرير مصالحها، علاوة على وقوفها الدائم والمتكرر في كل المحافل الدولية ضد مصالح السودان وعزله عن العالم.
وقد فرضت سيطرتها على حلايب وشلاتين وأبورماد عن طريق سياسة شراء ولاءات زعماء القبائل، وفرضت شروطها وإملاءاتها على قاطني هذه الأراضي السودانية، التي تثبت كل الخرائط والوثائق تبعيتها للسودان. لكنه هوان حكومة الإنقاذ بعد تورطها في سيناريو محاولة اغتيال حسني مبارك – وهو سيناريو معد بإحكام بواسطة المخابرات المصرية نفسها – والمؤسف أن السودان سعى لإحالة الأمر لمجلس الأمن، وظل يجدد الدعوة لأعوام عديدة، ومصر – جارة السوء – ترفض حتى التفاوض في الأمر، كأنها تتصرف في أراضيها فعلاً. (من يهن يسهل الهوان عليه).
مصر لم تقف عند هذا الحد، بل أقحمت السودان في صراعها مع إثيوبيا في قضية “سد النهضة” الإثيوبي، رغم أن كل الدراسات تشير إلى أن المنافع والفوائد التي يمكن أن يجنيها السودان من قيام هذا السد لا تقل عن مكاسب إثيوبيا نفسها، التي أقامت السد من كهرباء رخيصة، وانسياب مياه يساعد في توسيع الرقعة الزراعية، بالاستفادة من أكثر من 8 مليارات متر مكعب من المياه كانت تذهب لمصر…
لكن العقلية المصرية الاستعمارية ظلت تنظر إلى السودانيين من خلال شخصية “البواب والسفرجي” النمطية، وهذا ينم عن جهل فاضح بحضارة السودان العريقة، وقيمه الراسخة، وثقافته المترعة بالثراء والجمال… ولكن، خيرٌ يُرجى من وراء دولة جائرة سعت لجرّ السودان لحرب بالوكالة ضد إثيوبيا بسبب قضية الفشقة، وهي قضية لم تكن عصية على الحل السياسي التفاوضي، لا سيما وأن حكومة آبي أحمد مرنة جدًا تجاه الحوار حول هذه القضية.
جمهورية مصر العربية تتمدد في مساحات شاسعة من الأراضي السودانية، زراعية ومؤسسات مثل الري المصري، والسفارة، ومنزل السفير، والقنصليات، على سبيل المثال لا الحصر، وكل موظفي هذه المؤسسات يأتون إلى السودان من خلفيات أمنية، وضباط في جهاز المخابرات. الجارة السيئة لم تلتزم حتى باتفاقية الحريات الأربع إلا بما يحقق مصالحها، وكانت دومًا تخرق الاتفاقية، وفرضها تأشيرات دخول للسودانيين إلى مصر لهو خير دليل على نكص العهود والمواثيق.
ظلت الحكومات المصرية – سيئة الذكر – وراء كل التدهور الاقتصادي الذي ضرب السودان، حيث ظلت مخابراتهم تجوب البلاد طولًا وعرضًا لشراء موارد ومقدرات السودان من المحاصيل النقدية، والثروة الحيوانية، والذهب، وتُصدر للخارج كمنتجات مصرية. والمؤسف أن كل هذه المعاملات تتم بالعملة المحلية، وفي بعض الروايات بعملات مزيفة، لتهوي عملتنا وتنزلق إلى الحضيض. وحتى آثارنا لم تخلُ من عبث هذه الجارة الضارة! والأدهى والأمر أن كل هذا يتم على مرأى من حكومة البرهان، وعملاء مصر من الجنرالات، الذين تركوا مهامهم الأساسية وتفرغوا لخدمة مصر السيسي.
ما لا تعلمه مصر أن الشعب السوداني ناضج وقادر على وقف هذا الصلف المصري، لأنه أنجز ثورة تُعد الأعظم في العصر الحديث، وليس بغافل عمّا تقوم به مصر الرسمية. وظهر ذلك جليًا في رسائل تروس الشمال، الذين أغلقوا المعابر، ورأيناكم كيف تجأرون بالشكوى! وهم الآن يسمعون ضجيج إعلامكم جراء هذه الحرب، وسعيكم مع عملاء السودان لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وإجهاض ثورة الشعب… لكن هذا لا، ولم، ولن يحدث، ولو أحلتم السودان إلى ركام ورماد!
بلادنا زاخرة جدًا بالموارد، لكنها مصابة بلعنتها… اسعوا لخلق علاقات متكافئة، وحسن جوار، لأن هناك فرصًا لتكامل حقيقي قائم على أسس موضوعية، وليس على الاستغلال والاستغفال.
إن شعبنا، الذي يتكئ على حضارة هي الأعرق، وصانع الثورات التي هي الأعظم، قادر على أن يتعاطى مع مصر بانتهاج سياسة تقوم على أسس الندية، والحوار التفاوضي لكل القضايا المشتركة. أما استمراركم في نهجكم القديم، فسيقود إلى سيناريوهات لا أحد يمكن أن يتنبأ بمدى قسوتها عليكم.