
هل ستضع ثورة ديسمبر المجيدة نهاية لحكم العسكر؟ هل ستكون بوابة الخلاص من المصيدة الدكتاتورية الشمولية، وتفتح الطريق أمام بناء مشروع وطني متوافق عليه، ينهض على أنقاض الدولة المختطفة والموروثة عن الاستعمار؟ تلك الدولة التي ظلت نخبها المتسلطة جاثمة على صدر السودان لما يقارب السبعين عامًا، بينها 58 سنة من الحكم العسكري، حيث احتكر العسكر أدوات العنف وحوّلوا البلاد إلى ساحات للدماء، وعشر سنوات أخرى عاثت فيها الأحزاب فشلًا، وهي ذات الأحزاب التي نشأت في الأساس لمناهضة الاستعمار! فأي مفارقة هذه؟! مالكم كيف تحكمون؟
منذ ما قبل الاستقلال، ظل العسكر يمارسون العنف الممنهج ضد شعوب السودان. اندلعت الحرب في الجنوب واستمرت لنصف قرن، فحصدت آلة الحرب العسكرية أكثر من مليوني روح، إلى جانب سلسلة لا تنتهي من الانتهاكات والفظائع. ثم جاءت الحروب في دارفور، وكردفان، والنيل الأزرق، والشرق، فخلفت ضحايا لا حصر لهم وارتُكبت فيها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
لقد صادر العسكر أحلام وآمال السودانيين لعقود طويلة، واغتصبوا حقهم المشروع في الحكم، مستحوذين على الموارد والثروات على حساب التنمية والخدمات. وتحولوا إلى أداة طيعة للتدخل المصري السافر في شؤون السودان، فنهبت مصر الذهب، والصمغ العربي، والمحاصيل النقدية، والثروة الحيوانية، بل وصُدّرت هذه الخيرات أحيانًا كأنها مصرية المنشأ! وتجاوز الأمر الموارد، ليصل إلى الهيمنة على المواقف السياسية السودانية نفسها، رغم أن مصر تحتل أراضٍ سودانية عزيزة وتنتهك السيادة الوطنية بلا هوادة.
وما هذه إلا إشارات قليلة من طوفان فساد المؤسسة العسكرية، التي لم تكتفِ بكل هذا الخراب، بل سعت أيضًا إلى تضليل الشعب عبر آلة إعلامية ممنهجة تمجد حكم العسكر، وتدفعه في ذهن المواطن وكأنه الحل الأمثل، رغم أن الحروب المتوالية أنهكت البلاد، وأهدرت الموارد، ودمّرت حياة الناس.
استمر ضخ هذه الدعاية المضللة من قبل نخب مركزية متسلطة، حتى اقتنع البعض بأن الحكم العسكري هو الضامن الوحيد للأمن، بل ورسّخوا في العقول أن العسكري هو البطل الخارق القادر على فرض هيبة الدولة. وما زال هذا الغسيل الذهني مستمرًا، ليظل القتل قائمًا، وتستمر سرقة الموارد. لذلك لا عجب أن نسمع اليوم من يرددون ببراءة قاتلة شعارات من قبيل “عسكرية بس”! هؤلاء ضحايا ما يعرف بـ”سيكولوجية الإنسان المقهور”، الذي خضع طويلًا للبطش والاستلاب، حتى صارت السلطة العسكرية عنده قدرًا لا مفر منه.
السودان بلد زاخر بالموارد والمقدرات، ولو تمّت إدارتها بحكمة، لكان اليوم في مصاف الدول المتقدمة، ولتمتع شعبه بالسلام والرفاه والاستقرار. لكنّ ما ينبغي ترسيخه هو أن مهمة العسكر ليست الحكم، بل حماية الحدود والخضوع للسلطة المدنية المنتخبة، لأن السلطة من الشعب وإلى الشعب، ولا سلطان يعلو على إرادة الجماهير.
أن يُحكم الشعب بالعسكر جريمة في حقه، تمامًا كأن تطلب من فريق كرة يد أن يخوض مباراة كرة قدم… ولكم أن تتخيلوا حجم الفوضى والخرمجة!