
(الحلقة الثالثة: ظهور أم مسار جبريل… حين التقت الصديقات في تارني من جديد)
لم أكن أظن أن صوت أم مسار جبريل سيزورني يومًا بعد هذا الغياب الطويل. كنا نذكرها في أحاديثنا كذكرى دافئة، كظل بعيدٍ لطفولة مديدة، لكنها ظلت حاضرة في وجداننا رغم انقطاع التواصل لعشرين عامًا، منذ زواجها المبكر بابن عمها النور فضيل، حين انسحبت من مقاعد الدراسة إلى أروقة البيت والأسرة.
كانت أم مسار تختلف عنّا منذ البداية، تحمل جديّة الكبار وهمًّا سابقًا لسنها، لكننا لم نشك يومًا في طيبتها أو إخلاصها. حين اختفت من حياتنا كنا نلتمس لها الأعذار، فالزواج المبكر في دارفور لم يكن خيارًا دائمًا، بل قدرًا يصنعه الفقر والمجتمع.
ومع اشتداد الحرب وحصار الفاشر، كانت أخبار أم مسار مفقودة تمامًا. إلى أن فاجأت فاطمة مينا ذات مساء برسالة مقتضبة:
“تخيلي من التقيت في تارني؟”
أجبتها بسرعة: “من؟”
قالت: “أم مسار… ومعها ابنتها، تعملان في خدمة النازحين!”
أخذت أقرأ الجملة مرارًا، كأنني لا أصدق.
قالت فاطمة إن أم مسار ظهرت في مركز لتوزيع الغذاء والمياه بمنطقة تارني، ترتدي ثوبًا قرويًا بسيطًا، ووجهها كما هو، حازم ومليء بالتعب. جاءت ضمن قافلة من المتطوعات المحليات اللائي يُساعدن المنظمات في رصد أوضاع النازحين، وتوزيع الاحتياجات الأساسية.
كانت ترافقها ابنتها “مسرة”، فتاة في مطلع العشرينات، تحمل دفترًا صغيرًا وتدوّن فيه أسماء الأسر المحتاجة. عرفت فاطمة مينا من النظرة الأولى، وقبل أن تنطق باسمها.
وحين اقتربتا من بعضهما البعض، تعانقتا طويلاً، كأنّ الحنين انفجر دفعة واحدة بعد كل تلك السنوات، وانهمرت دموع لم تبكها الحرب.
قالت أم مسار إنها خرجت من الفاشر مبكرًا، حين سقط حي التجانية تحت نيران المعارك، ونزحت إلى أطراف المدينة، ثم إلى قرى الغرب، قبل أن تستقر في تارني، حيث وجدت فرصة لتساعد الآخرين، وتساعد نفسها في نفس الوقت.
قالت:
“كنت أبحث عن معنى وسط كل هذا الخراب… لم أعد تلك الفتاة التي تركتكنّ من أجل الزواج، ولكني لم أندم على شيء سوى أني ابتعدت عنكنّ طويلاً.”
كانت ابنتها مسرة تراقب الحديث بابتسامةٍ متواضعة، وقالت لاحقًا لفاطمة:
“أمي تتحدث عنكن كل مساء. عن مدرسة الفاشر، وعنكن، وعن حلم لم يكتمل.”
تقول فاطمة إن لقاءها بأم مسار أعاد إليها شيئًا من التوازن، من الدفء، من المعنى وسط جحيم النزوح. اجتمعتا لاحقًا في زاوية من المخيم مع بعض النساء، وتحدثن عن ضرورة تأسيس مبادرة محلية لرتق النسيج الاجتماعي، تعمل في توعية المجتمع وتقديم الدعم النفسي للأطفال والنساء، وتشجع على التعايش وتكسر حواجز الخوف بين المكونات الدارفورية.
تقول فاطمة:”اكتشفنا أننا ما زلنا نستطيع أن نفعل شيئًا… ولو بالكلمات.” ورغم أن رحمة أبكر لم تكن حاضرة الجسد، كانت حاضرة المعنى. فحين تحدثن عنها، بكت أم مسار بصوت خافت:”كانت أعقلنا… الله يكتب ليها السلامة وين ما كانت.”
أما أنا، البعيدة بجسدي في كاليفورنيا، القريبة بقلبي منهم جميعًا، فقد جلست تلك الليلة أمام شاشة هاتفي، أقرأ الرسائل من فاطمة، وأبكي. أبكي للحرب التي فرّقتنا، وللنزوح الذي جمعنا، وللحياة التي لم تترك لنا شيئًا سوى الحنين والإرادة.
خاتمة السرد: حين يصبح اللامكان بداية جديدة
قد تكون الفاشر الآن مدينة محاصرة، ومقسمة، ومتعبة، لكنها ما تزال تنجب من يضيئون الظلام.
قد نكون فقدنا أشياء كثيرة، لكننا لم نفقد بعضنا.
التغيير لا يبدأ بالسياسة، بل بالحوار، بالتضامن، وبأن نصدق أن العيش بسلام في دارفور ليس مستحيلاً.
الجيش ليس ملائكة، والدعم السريع ليسوا شياطين. هم بشر، مثلنا، فيهم من يقتل، وفيهم من يساعد.
العدالة تبدأ حين نؤمن أن الوطن لا يُبنى بالدم، بل بالرحمة، والتوزيع العادل للثروة، والاحترام المتبادل بين الناس.
وسلامٌ على من مشى في طريق النزوح، ولم ينسَ إنسانيته.
(انتهى)