
طوباوية مفرطة أم انفصال جذري عن الواقع؟
عندما خرج الدكتور كامل إدريس، رئيس وزراء حكومة بورتسودان الجديدة، في ١٩/٦/٢٠٢٥ بخطابه المتلفز ليعلن ملامح ما أسماه بـ”حكومة الأمل”، لم يكن المرء بحاجة إلى كثير من الخيال ليشعر أننا أمام مشهد ساخر من رواية 1984 لجورج أورويل؛ حيث يتحول الجهل إلى قوة، والحرب إلى سلام، و”الأمل” إلى غيبوبة جماعية مدروسة. ففي وقتٍ يشهد فيه السودان إحدى أكثر مراحله دموية وتفككًا، تتهاوى فيه المدن تحت الحروب، ويُهجر فيه الملايين قسرًا، وتغيب الدولة عن أداء وظائفها الأساسية في الحماية والخدمات، جاء الخطاب بلغة أقرب إلى بيان إنشائي في منتدى دافوس، لا في لحظة وطنية مفصلية تتطلب مواقف سياسية واضحة، وتشخيصًا جذريًا يتعامل مع بنية الأزمة، لا سطحها الإداري.
وبينما تنهار مؤسسات الدولة وتُقطع سبل الحياة عن أغلب السكان، أعلن إدريس عن حكومة “مدنية تكنوقراطية غير حزبية”، ترتكز على قيم مثل “الزهد” و”الشفافية” و”العدل”، وكأن ما يحدث في السودان مجرد خلل في التعيينات أو ضعف في الكفاءة الإدارية، لا مأزق تاريخي ناتج عن بنية سلطوية مركزية، قمعية، جاثمة على صدور السودانيين عامة والهامش علي وجه الخصوص، تحتكر السلطة والثروة وتعيد إنتاج العنف كأداة للحكم.
لقد أشار إدريس بالفعل إلى بعض مظاهر الأزمة مثل الفساد وسوء الإدارة والانقسامات الجهوية والطائفية، لكنه تهرّب من مواجهة جوهر المشكلة: المواطنة وطبيعة الحكم، غياب العدالة التاريخية، واستمرار التهميش المُمَنهَج، وتواطؤ الدولة مع قوى الإبادة والقتل المنظم. بل تجاهل تمامًا تسمية الفاعلين الأساسيين في الجريمة الوطنية المستمرة، واختار التماهي مع خطاب أخلاقي عام، مفرغ من أي مضمون سياسي أو التزام أخلاقي واضح.
وفي خضم هذا الانهيار الشامل، بدا إعلانه عن تشكيل حكومة من 22 وزارة فعلًا رمزيًا منفصلًا عن الواقع، لا يعبّر عن مشروع بناء وطن بقدر ما يكشف عن مأزق نخبوي في فهم طبيعة اللحظة. ففي بلد فقد سيادته، وانقطعت فيه الكهرباء والمياه، وانهارت فيه المنظومة الصحية والتعليمية، يصبح الحديث عن “هيئة للشفافية” و”وزارات للتنمية” دون مخاطبة جذور الازمة أشبه بإطلاق مشروع لبناء محطة فضاء في مدينة بلا ماء أو غذاء.
ليست المشكلة في عدد الوزارات أو توصيفها، بل في السؤال الأعمق الذي لم يتطرّق إليه إدريس مطلقًا: أي دولة يُشكّل لها حكومة؟ وهل هناك دولة قائمة فعلًا؟ أم أن ما تبقى هو كيان متهالك تتنازعه الجيوش المتحاربة، وتتناحر على أنقاضه المليشيات المسلحة، فيما “الأغلبية الصامتة” التي يدّعي تمثيلها قد أصبحت إما تحت الأرض أو عالقة على حدود دول الجوار؟
المحير في خطاب كامل إدريس أنه لم يُبدِ أي وعي أو تقدير للجهود التأسيسية البديلة والفاعلة، وعلى رأسها ميثاق تأسيس، الذي يمثل محاولة سياسية جادة لإعادة بناء الدولة السودانية على أسس المواطنة المتساوية، والعدالة التاريخية، والتوزيع العادل للسلطة والثروة. وبدلًا من الاشتباك مع هكذا مسارات تأسيسية جذرية، لجأ إدريس إلى مفردات تقليدية مُستهلكة مثل “الصدق”، “الأمانة”، و”الكفاءة”، وهي، وإن كانت مقبولة من حيث المبدأ، إلا أنها تُستدعى هنا في لحظة لا تتوافر فيها شروط الدولة أصلاً، بل في واقع مأزوم ينزف من قلب معركة وجودية تهدد وحدة البلاد وسلامة مجتمعاتها.
فالمسألة اليوم لا تتعلق بتعيين “تكنوقراط” منزوعي الهوية السياسية في مواقع تنفيذية، بل بإعادة تعريف الدولة نفسها: من كونها أداة مركزية للهيمنة القومية والعسكرية، إلى كونها عقدًا اجتماعيًا جديدًا يستند إلى الإرادة الشعبية، ويضمن العدالة، ويُقرّ بتعدد الهويات والانتماءات.
التحدي الحقيقي لا يكمن في تحسين مؤشرات الأداء الإداري، بل في تفكيك بنية العنف التي تأسست عليها الدولة منذ الاستقلال، ونزع عسكرة الحياة العامة، ومحاسبة من ارتكبوا المجازر، وفتح الطريق نحو عدالة تأسيسية تُنصف الهامش وتسترد كرامة الضحايا. هذه هي الخطوة الأولى لأي مشروع وطني جاد.
أما الحديث عن “العيش الرغيد” و”الانتقال إلى مصاف الدول المتقدمة”، في ظل غياب الاعتراف الصريح بكارثة الحرب والانهيار البنيوي للدولة، فهو لا يعدو كونه وهمًا إداريًا مغلفًا بلغة تنموية معزولة عن الواقع، لا يرتقي إلى مستوى الفعل السياسي، ولا يعكس خطورة اللحظة.
لذلك، فإن خطاب كامل إدريس لا يقدّم تصورًا لبناء جديد، بل يُعيد إنتاج المأزق نفسه: عجز النخبة عن فهم الواقع، وتمسكها بأدوات لفظية وتنظيمية تجاوزتها ضرورات المرحلة. إنه خطاب يهرب من مواجهة الأسئلة الحقيقية، ويختبئ خلف أخلاقيات طوباوية خاوية، في وقت يتطلب شجاعة فكرية وسياسية وموقفًا جذريًا من بنية السلطة القائمة.
في المحصلة، لا يمكن قراءة خطاب إدريس إلا بوصفه تشخيصًا ساذجًا لأزمة بنيوية عميقة، يُراد له أن يكون بديلاً مخدرًا عن الحقيقة التي بات الجميع يعرفها:
السودان اليوم لا يحتاج مجرد حكومة جديدة، بل دولة جديدة، تُبنى على أنقاض المنظومة القديمة، لا تحت مظلتها.
تشخيص ساذج لأزمات بنيوية عميقة:
في خطابه، أشار الدكتور كامل إدريس إلى مجموعة من الإشكالات التي قال إن حكومته ستتصدى لها، مثل غياب الكفاءة في تعيين المسؤولين، ضعف الإدارة والقيادة، غياب التنمية المتوازنة، تفشي الفساد، والتعصب الحزبي والعرقي والديني. ورغم وجاهة هذه القضايا على المستوى الظاهري، فإنها تظل سطحية في مقاربتها، لا تمس جوهر الأزمة السودانية الذي يتجذر في بنية الدولة نفسها، تلك الدولة التي تأسست منذ الاستقلال على مركزية استبعادية، قمعية، واحتكارية فيما يتعلق بالثروة والسلطة، وفشلت في الاعتراف بالتعدد الاثني والثقافي والاجتماعي والسياسي للسودان.
الاقتصار على هذا النوع من التشخيص الإداري، وإن بدا متزنًا في لغة “الحوكمة الرشيدة”، فإنه في جوهره أقرب إلى شكل من أشكال الاحتيال والتواطؤ غير المعلن مع البنية العميقة للأزمة. كما عبّرت عن ذلك الشاعرة البولندية فيسوافا شيمبورسكا، حين وصفت خطابات السياسيين أمثال كامل ادريس بأنهم “يبدأون كلامهم بعباراتٍ مألوفة، كأنّهم يكتشفون الموت والولادة لأول مرة”، فإن خطاب إدريس لا يقدم سوى إعادة إنتاج لأطروحات قديمة بلغة مكررة، يتفادى فيها تسمية الجناة، ويتغافل عن البُعد البنيوي للعنف والتمييز والخراب.
كيف يمكن لخطاب لم يذكر الحروب وتداعياتها أن يدّعي امتلاك مفاتيح بناء وطن؟
الحكومة المزمع تشكيلها… بين خطاب النوايا ولحظة المساءلة:
حين أعلن إدريس أن حكومته ستمثل “الأغلبية الصامتة”، تجاهل أن هذا الصمت في السودان اليوم ليس ناتجًا عن حياد سياسي، بل عن إسكات قسري نتج عن التهميش والقتل، التهجير، الإفقار، والتدمير المتعمد للمجتمع المدني. “الأغلبية الصامتة” ليست كتلة انتخابية هادئة، بل جموع مقهورة صودرت أصواتها في الهامش، طُردت من منازلها في الجزيرة واطراف المدن الكبري، وتُركت تموت على أبواب المساعدات المسروقة والمصادرة.
أما اختزال الدولة في “وكالة خادمة” تديرها حكومة تكنوقراط غير حزبية، فهو تبسيط فجّ لتاريخ طويل من القمع والإقصاء، وتجاهل تام لفكرة أن “الإدارة الرشيدة” لا تكفي لبناء عقد سياسي جديد. فالمشكلة ليست في مؤشرات النزاهة ولا في الزهد الإداري، بل في السؤال السياسي المؤجل: من سيحاسب من؟ ومن سيعيد الحقوق؟ ومن يضمن ألا تتكرر المأساة؟
قال فرانز فانون في معذبو الأرض مايعني:
“المسألة ليست أن نملأ الكراسي بموظفين أكفاء، بل أن نعيد تشكيل الكراسي ذاتها.”
وهذا ما لا يعيه ولم يطرحه كامل إدريس، الذي اكتفى بإعادة ترتيب واجهة الدولة، دون أن يطرح سؤال مشروعيتها، ولا ماهية الدولة نفسها، ولا إلى من يجب أن تُعاد ملكيتها الرمزية والأخلاقية والسياسية.
حين يصبح التفاؤل غطاءً للتجاهل:
في مثل هذه اللحظات المفصلية، لا تكون الطوباوية السياسية مجرد خطأ في التقدير، بل تتجسد كوجه من وجوه اللامبالاة
خطاب كامل إدريس، بدا كأنه مكتوب في غرفة اجتماعات بعيدة عن صور الضحايا في الهامش، وصرخات النازحين واللاجئين. إن هذه اللغة، حين تُستخدم لتبرير استعادة شكل الدولة دون تفكيك محتواها العنيف، تصبح أداة إنكار لا أداة بناء. من يتحدث عن “خدمة عامة” دون أن يسأل عن من دمّر هذه الخدمة، ومن صادر الحق فيها، ومن حوّل الدولة إلى أداة قمع، يشارك – شاء أم أبى – في تعويم الجريمة.
من حكومة “الأمل” إلى دولة العدالة التأسيسية:
في مقابل هذا الخطاب التكنوقراطي المنفصم والمنفصل عن السياق، تُطرح مشاريع بديلة أكثر صدقًا وعمقًا، مثل مشروع السودان الجديد ووثيقة ميثاق السودان ي التأسيسي، والتي لا تبدأ من وهم الإصلاح الإداري، بل من ضرورة القطيعة الجذرية مع الدولة المركزية القديمة، وبناء دولة جديدة تقوم على العدالة، والمحاسبة، وحق تقرير المصير، والمواطنة، والعلمانية كضمان للعدالة لا كشعار أيديولوجي.
فبدلًا من الزهد الإداري، تدعو هذه المشاريع إلى:
– المساءلة لا النسيان،
– العدالة التاريخية لا الإدارة الرشيدة،
– حق تقرير المصير لا وحدة قسرية مزيّفة،
– العلمانية والمواطنة لا تسامحًا تجميليًا يخفي الإقصاء.
خطاب “الأمل” الذي قدمه إدريس، بصيغته الحالية، لا يمثل مخرجًا من الأزمة، بل يعكس إصرارًا على إعادة تدوير الرداءة في ثوب بيروقراطي نظيف. إنه يرضي المانحين، ويخاطب غرف المؤتمرات الدولية، لكنه لا يُخاطب أهل الهامش، ولا الناجين من القتل في كنابي الجزيرة، ولا أطفال العزبة وقرية الخيرات الذين يمشون حفاة في شوارع العاصمة اليوم.
إن السياسة التي لا تُبنى على مواجهة الواقع بجذوره، لا يمكنها أن تُنتج مستقبلًا قابلًا للعيش، مهما كانت نواياها حسنة. فالدولة التي تُبنى فوق أشلاء الضحايا دون مساءلة، تُعيد إنتاج الجريمة، لا تضع حدًا لها.
اخيرا: حكومة “الأمل” في بلد بلا مستقبل؟!
لقد آن الأوان أن نتوقف عن مجاملة الخطب المصقولة والعبارات المهندسة في مختبرات العلاقات العامة. فزمن الحروب لا يحتمل الزينة، ولا يستقيم مع “الزهد الإداري” حين تكون الدماء هي العملة الوحيدة المتداولة في السوق السياسي. وكما قال جيمس بالدوين، وقد خبر العنف والخذلان:
“لا يمكنك إصلاح ما لا تعترف بوجوده.”
فإذا كان كامل إدريس لا يزال يعتقد أن السودان بحاجة إلى حكومة “تكنوقراط غير حزبية” والسلام، وأن معركتنا مع سوء التعيين وفساد الذمة، فإن هذا لا يدل على حسن نية بقدر ما يكشف عن جهل مُدوٍ بطبيعة اللحظة. نحن لا نعيش أزمة إدارة، بل نحتضر في قلب كارثة وطنية وجودية، تتطلب تفكيكًا شاملاً للدولة العميقة، لا ترقيعًا لواجهتها.
لن تنفعه وزاراته الـ22، ولا تقشفه، ولا “هيئة الشفافية”، ما دام عاجزًا عن الاعتراف أن السودان اليوم ليس دولة بل أشلاء وطن تتنازعه الجثث والمجاعات والميليشيات الاسلامية.
فليحتفظ بحكومة “الأمل”، تلك التي تُشبه “وزارة الرفاه” في رواية 1984، التي تنتج الجوع بدل الغذاء، وتخدر الوعي بدل أن توقظه.
ما تحتاجه البلاد اليوم هو حكومة الحقيقة، لا الأمل،
حكومة تتحدث عن الإبادة كما هي، لا كمجرد “خلل في التوازن”،
حكومة تفتح الدفاتر القديمة وتحاسب، لا تسوّف،
حكومة لا تخاف من تسمية القتلة، ولا تُزيّف انتماء الضحايا
إن مشروع إعادة بناء السودان بعد الحروب لا يُدار من على منصات المؤتمرات، بل يبدأ من تحت الأنقاض:
من مآتم الهامش، من قاع النهر في ود مدني، من خيام النزوح في النيل الأزرق، من النساء المغتصبات في الهامش، ومن المقابر الجماعية التي لم تُكتشف بعد.
هذا المشروع يتطلب:
– دستورًا جديدًا لا يُكتب في غرف مغلقة بل في ضوء العدالة،
– لا تقوم على العفو العام بل على المحاسبة الكاملة،
– ومشروعًا سياديًا يعترف بحق تقرير المصير، لا وحدة قسرية ميتة،
– وتفكيكًا حقيقيًا لجيش الدولة القديمة وميلشياتها معًا، وبناء جيش وقوات امنية وطنية جديدة.
– وأخيرًا، إرادة سياسية لا تستحي من قول الحقيقة، ولو كانت قبيحة.
فيا أيها السيد كامل انطوانيت:
لم نعد نريد “حُسنيين” يقيسون النزاهة بمسطرة احدي منظمات الأمم المتحدة،
نريد من يضع يده على الجرح، لا من يعرض علينا لاصقًا ملوّنًا.
وإذا كانت هذه المهمة أكبر منك – وهي كذلك – فدعها لأهلها:
لأبناء الميادين لا المكاتب،
لمن عاشوا الألم لا لمن تسببوا فيه،
لمن لا يملكون ترف “الصمت السياسي”، لأنهم دفعوا ثمنه مسبقًا.
في لحظة الخراب الكامل، إما أن نعترف بأننا بحاجة إلى تأسيس دولة جديدة بكل ما تحمله الكلمة من معنى،
أو نستمر في تدوير الخراب… بحكومة زاهدة، ووزارات أنيقة، وخطابات لا يسمعها سوى المانحون.
وفي هذه الحالة، لن يكون السؤال: “ما شكل الحكومة؟”
بل: “هل بقي من الوطن ما يُحكم أصلاً؟”
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)