
في قلب الجزيرة الحزينة، تبدو مدينة ود مدني وكأنها فقدت جزءًا من روحها، تئن تحت وطأة الألم، وتبكي على ما حل بها من خراب وفقدان. لم يكن أحد يتخيل أن تصبح المدينة، التي كانت رمزًا للسلام والتآخي، مسرحًا لجرائم تفوق الخيال في وحشيتها.
لقد عاش سكان الجزيرة فترة صعبة في ظل وجود قوات الدعم السريع، ولم يكن غريبًا أن تظهر تجاوزات ارتبطت بممارسات عنيفة ومرفوضة، لكن مهما بلغت تلك الممارسات من سوء، فإنها لا تُقارن بما شهدته المدينة بعد انسحاب الدعم السريع. كانت الجرائم التي ارتكبها الجيش وحلفاؤه من كتائب البراء والجماعات العنصرية بمثابة الكابوس الذي أطبق على قلوب أهل الجزيرة، تاركًا ندوبًا لا يمكن محوها.
في مدني وقرى الجزيرة، انفجرت الأحقاد بأبشع صورها. تحول الإنسان إلى هدف بسبب هويته أو سحنته أو حتى موقعه الجغرافي. انتشرت المجازر كالوباء، حيث عمت عمليات القتل والذبح كنابي والتجمعات السكانية ذات الأصول الغربية او الجنوبية، مثلما حدث في “كمبو ٥ شرق مدني”، حيث نُكل بالأبرياء دون رحمة. لقد باتت الأرواح تُزهق بدم بارد، وأصبح الجار عدوًا لجاره، وتحوّل البشر إلى ضحايا في لعبة عنف همجية لا نهاية لها.
في قلب هذه المأساة، دفعت الحاجة مريومة، الأم لـ12 ابنًا وبنتًا، حياتها ثمنًا لكراهية عمياء. قُتلت بوحشية تفطر القلوب، ورُسمت قصتها كواحدة من آلاف الحكايات المؤلمة التي تحمل تفاصيلها مشاهد من الرعب والقسوة. لم تتوقف المجازر عند ذلك؛ بل طالت الناس بأبشع الطرق، من اعتقالات عشوائية وإخفاء قسري إلى إلقاء الأحياء في النهر وذبح الأبرياء كالخراف.
ود مدني، التي كانت تنعم بالأمان والسلام، تحولت إلى مدينة تغرق في الدماء والدموع. لم يعد للناس مكان يلوذون إليه ولا حياة يعيشونها. بات الخوف رفيقهم اليومي، وباتت مشاهد الموت والدمار تحيط بهم من كل جانب.
لقد كانت الجزيرة شاهدة على واحدة من أسوأ صفحات تاريخها، حيث امتزجت الكراهية بالعنصرية، وتحولت إلى وقود يشعل نيران الفتنة والعنف. مدينة ود مدني لم تعد تعرف الأمان، ولم تعد قادرة على استيعاب حجم المأساة التي وقعت عليها.
اليوم، تبكي المدينة على أيام مضت، ليس لأنها كانت مثالية، ولكن لأن الحاضر أكثر مرارة من كل ما سبق. تبكي على أرواح أهلها التي أُزهقت بلا ذنب، وعلى براءة أطفالها التي قُتلت مع أمهاتهم وآبائهم.
لا أمان يا مدني، ولا عزاء للجزيرة. الواقع أشد قسوة من أن يُحكى، والمستقبل يبدو مظلمًا في مدينة غابت عنها الحياة، واحتلتها ذكريات الألم والموت. ود مدني تنزف، تنزف بلا توقف، وكأنها تصرخ طلبًا للرحمة والنجاة.