
مرحبًا بكم في جمهورية البرهان وكيزانه، جمهورية المسخرة والعبث؛ حيث لا الفواجع تُدهش، ولا الكوارث تُحرج، ولا الكوميديا تُضحك، وحيث كل شيء يتساوى مع نقيضه: المأساة مع النكتة، والبيان الرسمي مع المشهد الهزلي، وحيث كل شيء لا يُوصِل إلى شيء.
لم نخرج بعدُ من مسخرة حكومة كميل إدريس الإلكترونية، حتى دخلنا إلى مهزلة السجون، حيث صرّح مدير شرطة السجون، أمس، بأنهم قد أتمّوا صيانة سجن كوبر، ووجّهوا دعوة إلى المساجين للعودة منذ أكثر من شهر، لكن لم يستجب أحدٌ منهم!!
كأننا أمام عرضٍ سينمائي بائس: سجن يُفتح في عزّ الحرب، ومساجين يُتركون طلقاء، ثم يُرجى منهم أن يعودوا، وكأنهم خرجوا في نزهة، أو كأنهم تلاميذ في عطلتهم الصيفية تأخّروا عن موعد العودة!
لكن ما يثير السخرية حدّ القهر، أن المساجين الذين وُجّهت إليهم “الدعوة” للعودة إلى السجن، ليسوا جميعًا نشّالين أو لصوصًا مشاغبين أو قتلة جنائيين، بل بينهم لصوص محترفون سرقوا وطنًا بأكمله، وقتلة لا يقتلون فرادى، بل جماعات. وعلى رأس هؤلاء، ثلاثةٌ من أعتى المطلوبين للعدالة الدولية: عمر حسن البشير، وعبد الرحيم محمد حسين، وأحمد هارون، بتهم ارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وجريمة الإبادة الجماعية.
وقد أُخرجوا أثناء الحرب من السجن، ولم يخرجوا منه، بل إن هذه الحرب نفسها صُمّمت خصيصًا من أجلهم… ومن أجل أن يُحوّلوا السودان إلى سجنٍ كبير، لا جدران له سوى القتل، والقمع، والخوف!
إن “الدعوة” التي تحدّث عنها مدير السجن، ليست سوى فصلٍ جديد من المسرحيات الرديئة التي يكتبها الكيزان ويُخرجها عسكرهم بصورةٍ أكثر رداءة. فمن الذي فتح السجون في الأيام الأولى للحرب؟ ولماذا؟ وهل يعود القتلة واللصوص إلى القضبان التي خرجوا منها لمجرّد أن السلطات طلبت ذلك؟ أين ومتى حدث هذا؟
ثم إنّ ثلاثي القتل والإبادة لم يتوارَوا أصلًا حتى تتم دعوتهم إلى الظهور والحضور. لقد ظلّوا حاضرين بيننا على الدوام؛ نراهم في كل روحٍ تُزهق، وفي كل امرأةٍ تُثكل، وكل طفلٍ يُيتم، وكل فتاةٍ تُغتصب، وكل جثةٍ يُمثّل بها. بل نراهم بأشكالٍ عديدة: في الخطاب، في المعركة، وفي اسمها، وفي فوضى القرار، وحتى في مكتب البرهان نفسه، كما قال مفتيهم، اللصّ الداعشي الهارب إلى تركيا.
أحدُ هؤلاء المجرمين القتلة الفارّين، بل أخطرهم على الإطلاق؛ أحمد هارون، لم يكتفِ بالخروج من السجن، بل أطَلّ علينا والمأساة في أيامها الأولى، من على بُعد خطواتٍ من بوّابة السجن، معلنًا الحرب على السودان بأسره، ومانحًا إياها اسمًا من عنده: (حرب الكرامة) – ذلك الاسم الذي تبنّاه لاحقًا قائد الجيش نفسه، في مشهدٍ فاضحٍ يكشف وجه الحرب الحقيقي، ويعرّي أصحابها الفعليين، ويطرح السؤال العالق في هواء الخديعة: من يأمر من؟ ومن يسجن من؟
إنها مهزلةٌ يعرف فصولها كلُّ الناس، إذ لا أحد يجهل أين هم، ومن الذي أطلق سراحهم، ومن الذي يحرسهم الآن. والإجابة على هذه الأسئلة تجعل من “دعوة” مدير السجن مجرّد نكتةٍ متأخّرة في مسرح الخراب البرهاني العظيم.