
التاريخ يعيد نفسه، كما لو أن الأحداث تتوالى في حلقات متكررة منذ أكثر من قرن. في خضم حرب التحرير الثالثة التي نشهدها اليوم، يتجلى دور شباب قوات الدعم السريع في أبهى صوره، محققين تضحيات تذكرنا ببطولات أسلافهم في معارك التحرر الوطني الأولى والثانية.
اليوم يعود بنا التاريخ إلى العام 1881، عندما قاد الإمام المهدي اسلاف هؤلاء الرجال في حرب التحرر الوطني الأولى، حيث تحدى الرجال الشجعان، الذين لا يهابون الموت، سلطة الإمبراطورية التركية، كما تحدو الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، حتى قال عنهم كبير الجنرالات البريطانيين” ما هزمناهم ولكن حصدناهم بقوة السلاح وكثافة النيران “، وقد كانت الشهادة في سبيل الله والوطن أغلى أمانيهم.
تمامًا كما رأينا في حرب التحرير الثانية، عندما نادى المنادي في خمسينيات القرن العشرين، كان عبدالرحمن دبكة، أحد أبرز قادة دارفور الكبرى وحفيد قادة التحرير الوطني الأول، أول من رفع صوته عالياً مطالبًا بالاستقلال التام للسودان في برلمان كان غالبية أعضاؤه يعارضون التحرر الوطني، ويسعون للدخول تحت عباءة استعمار جديد، ارتفع صوت دبكة ليضع حداً لأطماع مصر الخديوية الخائبة، وليؤكد على استقلال السودان مجددا، فكانت تلك مرحلة فاصلة في تاريخ البلاد.
أما اليوم، ونحن نعيش فصول حرب التحرير الثالثة، حيث تحولت المعركة إلى مواجهة شاملة ضد وكلاء الاستعمار الجديد الذين اتخذوا من سياسة “فرق تسد” وسياسة ” ضرب الحجر بالحجر” وسيلة لتفكيك البلاد وإضعافها، وسلبوا حقوق أبناء شعوب الأقاليم المهمشة، وحرموا أبناء الجنوب سابقا، ودارفور وكردفان والنيل الأزرق والشرق حاليا من أبسط حقوقهم في التعليم والصحة، والعيش الكريم، مما أدى إلى تمرد ابناء الجنوب حينها ومنذ بواكير الاستقلال الثاني ودخولهم في حرب تحرير خاصه بهم لتحقيق استقلالهم عن سلطة الهيمنة والاستغلال، وقد كان لهم ما أرادوا في يوليو 2011.
في ظل هذه الظروف، انطلقت حرب التحرير الثالثة بقيادة الجنرال محمد حمدان دقلو، الذي أدرك بوعيه وفطرته السليمة محاولات أبناء الشمال النيلي للاستئثار بالسلطة على حساب الأقاليم الأخرى. فقاد الجنرال دقلو رجالًا من خيرة الرجال، وشباب في ربيع أعمارهم، رجال كان يستخدمهم أبناء الشمال النيلي في تثبيت حكمهم، وتصفية خصوماتهم داخل الوطن الواحد. حيث يشعل زبانية الحروب عبر سياساتهم المقيتة حروبا في دارفور تارة يستخدمون فيها أبشع أنواع المكر والدهاء، فالقبائل العربية ضد القبائل غير العربية او ما يعرف “الزرقة في دارفور”. وتارة أخرى، كذلك، أبناء القبائل العربية ضد أهلهم وجيرانهم في جبال النوبة والنيل الأزرق.
وكما استخدم الإنجليز سلاح المكسيم في حرب التحرير الاولى، تستخدم اليوم مليشيا الشمال النيلي بقيادة البرهان بسلاح الطيران، الذي حصد آلاف الانفس من المدنيين في دارفور وكردفان والنيل الأبيض والازرق، إلا أن شباب الدعم السريع واجهوا هذه الآلة بصدورهم العارية، متسلحين بإيمانهم بعدالة قضيتهم. ففي حرب التحرر الوطني الثالثة، قدم الدعم السريع خيرة رجاله، من الشيوخ والشباب على حد سواء. يتقدمهم الشهيد فيناوي، والشهيد الشيخ الستيني سعادة اللواء علي يعقوب الرجل الصادق الذي اتسم بالحسم والعزم، فقال مقولته الشهيرة ” نحن نركبُ عناقر الرجال، وإن بطون أرجلنا لن يراها أحد”، والشهيد البطل سعادة اللواء عبدالرحمن البيشي، ذلك الرفاعي طويل الهامة، الذي اختار البقاء والقتال بجانب رفاقه في الدعم السريع رافضاً العودة إلى صفوف مليشيا البرهان، فقال البيشي عبارته الشهيرة: “الدعم السريع ذُقتُ حُلوه فلن أهرب من مُره”، فقاتل حتى نال الشهادة بشجاعة لا مثيل لها. كما نذكر في خضم هذه التراتيل الجنرال عبدالرحمن قرن شطة، ذلك الشاب الأنيق المشبع بروح الفداء، الذي كان يردد دائمًا: “الموت ما عيب، نحن إن متنا ستظل الراية مرفوعة عالية”. وهكذا، فقد رحل هؤلاء الشهداء الأبطال وتركوا وراءهم إرثًا من الشجاعة والتضحية لا يبارى، ونموذج من الاقدام لا يُجارى، وبسالة منقطعة النظير.
في المقابل، سيُسجلُ التاريخ خيانة ضباط مليشيا الشمال النيلي للأمانة، وتخليهم عن واجبهم الوطني، حيث سقطوا في فخ جماعة الاخوان الإرهابية الفاسدة التي استغلتهم لتحقيق مصالحها الضيقة، وتحولوا بذلك إلى أدوات في يدها الماكرة، التي أفسدت جيش البازنقر على فساده، وهزمته معنوياً قبل هزائمه في الميدان، بل وسوف يسجل على صفحاتهم أيضاً كيف انهم فشلوا في مهمتهم الاصيلة رغم كونهم بارعين في تجارة الطلح والشاف والكليت وخشب الزان. لقد خان هؤلاء الجبناء الأمانة التي وضعتها البلاد في أيديهم، وأصبحوا رمزًا للخيانة والتراجع والهزال.
في الجانب المشرق من الفسطاط، تظل تضحيات شباب الدعم السريع خالدة في صفحات التاريخ، وستذكرهم أجيال المستقبل، وستذكر كيف وقفوا في وجه الظلم والقهر بقلوب مفعمة بالإيمان وبصدور عارية، بينما سقط الآخرون في فخ الخيانة والانتهازية. وستظل هذه التراتيل في محراب الشهداء ماضية تروي قصص أبطال لم يهابوا الموت وسعوا جاهدين نحو احدى غايتين النصر او الشهادة.