رأي

قلب الخارطة: ماذا لو كان الشمال هو دارفور؟

منال علي محمود

(عندما تُقلب الجغرافيا، تتكشف الحقيقة)

ماذا لو قُلبت الخارطة، لا بمعناها الكرتوني، بل بمضمونها السياسي والاقتصادي والاجتماعي؟

ماذا لو كانت الحرب في دنقلا، والنازحون من مروي، والبراميل تتساقط على قرى كريمة والقرير؟

ماذا لو عاش الشمال تجربة دارفور كاملة (من التهميش إلى التشويه، ومن القتل خارج القانون إلى التشريد المنهجي)؟

ويتم تجريف المدن نحو المعسكرات بحجة محاربة التمرد، وتظل فزاعة (محاربة التمرد) قائمة حتى تصير البيوت خرابا، والأرض بورا، وتعمر صفوف تلقى المساعدات داخل المعسكرات (الوطن الجديد)

هذا النص محاولة لاختبار العدالة عبر الخيال، لنعرف: ما الذي يجعل الظلم ممكنًا؟

ولماذا لا يُحتمل إلا إذا سُلط على (غيرنا)؟

 

الأمن والقتل: الشمال في مرمى النار

 

تخيل أن الحرب القبلية اندلعت في مروي، بتحريض من المركز

مليشيات مجهزة من (نيالا) تدخل قرى الشمالية وتبيدها، بينما الإعلام الرسمي يصف القتل بأنه (اشتباكات محلية)

ثم يُسن قانون جديد اسمه (الوجوه الغريبة)، يُطبق على شباب دنقلا، فيُقتل أي شخص (غير معروف) في الحي

قانون لا يحاكم، بل يعدم

ولا يُساءل، بل يُطبّق بدم بارد

 

يُسحل الشيوخ في كريمة، ويُعتقل طلاب عطبرة بتهم مثل (تحريض على المركز)

ويُدرج كل من يرفع صورة شهيد من الدبة ضمن قوائم الإرهاب المحلي

 

الاقتصاد: بترول كردفان ومصفاة الجيلي

 

في السودان الحقيقي، يُستخرج البترول من أراضي كردفان، لكن لا ترى أبناءها في إدارة المصفاة

تُنقل الثروة من الهامش لتُصفّى في (الجيلي) شمال الخرطوم، وتُدار بكوادر من الشمال

أما في السودان المقلوب، تُبنى المصفاة في دنقلا، لكن تُدار من زالنجي

وتُعلن وزارة الطاقة عن وظائف، لا يُقبل فيها إلا من كان عنوانه الجنينة أو الفاشر

ويُقال لأبناء الشمالية

(الكفاءة لا تعرف الجغرافيا)

 

لكن الجغرافيا تعرف التهميش جيدًا

 

الذهب والصمغ والمواشي: الثروة من الغرب والميناء دنقلا

 

يُهرّب الذهب من جبل عامر

لكن يُصدَّر عبر دنقلا، حيث أنشئت بورصة (وطنية) بإدارة شركات من أبناء القولد

الصمغ العربي من كردفان، والمواشي من الفاشر

لكن الجمارك والإجراءات والرسوم تُدار من الشمال

 

ويُمنع تجار الأبيض من دخول السوق إلا بتوكيل شمالي

أما العائدات؟

فتدخل في بنوك مروي وأرقو

وتُستخدم لتمويل طرق تربط القرى النيلية ببعضها

بينما تظل الفاشر مقطوعة بالمطر

 

الوظائف والتمكين الجغرافي

 

وزارة المالية في السودان المقلوب، يديرها أبناء زالنجي

كل وظيفة تُوزع حسب (التزكية الإقليمية)

وكل بعثة دراسية تخرج من الجنينة

ويظهر وزير من نيالا على الإعلام ليقول

(أبناء دنقلا يحتاجون إلى تأهيل، فهم لم يعيشوا تجربة الحرب)

 

ولن يحلم شمالي بمنصب وزير مالية

إلا بعد توقيع اتفاق سلام

فليس كافيًا أن تكون من أطراف السودان

بل يجب أن تأتي بعد صلح

مثل صلح الحديبية

يدخل بموجبه المهمش إلى الوزارة بشروط العاصمة

وتُمنح له الوظيفة كـ(تنازل سياسي)

لا كاستحقاق

 

وماذا لو اقتطعنا مساحة بحجم قطر من الشمالية وضممناها إلى دارفور، لأننا نستطيع ذلك؟

وماذا لو قلنا لأهل القولد

(هذه الأرض كانت تابعة للفاشر… والآن عادت لأصلها)

بدون سند قانوني

ولا استفتاء

ولا حتى بيان رسمي

تمامًا كما حدث لدارفور

حين بُترت حدودها لصالح الشمال

لأن المركز قرر

وحده يقرر

ثم يُطلب من الضحية أن يبتسم وهو يُنزع من أرضه

 

وماذا لو أتينا، وبعد كل هذا الألم، بعوقه من الغرب، اسمه كمييل؟

وقال للناس (لا أمل… بل بس)

ثم شكل حكومة سماها (كمييل… للأمل والنهضة)

وصدّقوه، لا لأنه قدم شيئاً، بل لأنه من جهة ظلّت طويلاً في الظل

فصفق له البعض، لا حباً فيه، بل نكاية في آخرين

وهكذا يصبح التعبير عن الغبن مشروع حكم

وتتحول العبارة المرتجفة إلى برنامج وطني

ويُطلب من الضحايا أن يسامحوا، لأن كمييل (يشبههم)

 

الشمالية تتحول إلى هامش، لا جامعة فيها مكتملة، ولا طريق مسفلت يربط بين مدنها

ويُقال لهم

(اصبروا… فالتنمية تأتي لاحقًا)

 

الحرب: عندما تتفجر السماء على رؤوس الأبرياء

 

عندما اشتدت الحرب، دُكت مطارات نيالا والفاشر والجنينة بلا رحمة

لكن مطارات دنقلا وكريمة ومروي ظلت محمية

ممن؟

لا أحد يعلم

فقط قيل إن (الضرورات الاستراتيجية) تقتضي الحفاظ عليها

وهكذا أصبح القصف قدرًا جغرافيًا

تُقصف مدينة لأنها غرب

ويُحمى مطار لأنه شمال

 

حتى في ساعة الموت، تُوزَّع العدالة بميزان العرق والموقع

 

الإعلام: من يروي القصة، ومن يُقصى من الذاكرة؟

 

يظهر محلل من مروي على قناة رسمية ليقول

(ما يحدث في دنقلا سببه الفقر، وليس التهميش)

ويكتب صحفي من نيالا أن (الشمالية تحتاج إلى التوعية لا الثورة)

ويُمنع أي تقرير يوثق المجازر في القرير

بينما يُخصص برنامج أسبوعي لـ(نهضة زالنجي)

 

الإعلام، في هذا السودان، لا ينقل المأساة، بل يُعيد إنتاجها ككذبة وطنية

 

خاتمة: لو قُلبت الخرائط… لانقلبت المفاهيم

 

لو حدث كل هذا في الشمال

لأُعلنت حالة الطوارئ الدولية

ولخرجت الخرطوم عن بكرة أبيها

 

لكن لأن الدم في دارفور، فالقضية محلية

ولأن الوجوه سوداء، فالأرواح أرخص

 

ما يفعله هذا النص، هو سؤال .. لماذا لا نحتمل العدالة إلا إذا لم تطالنا؟

ولماذا نغضب إن صار بنا ما فعلناه بغيرنا؟

 

قلب الخارطة لا يعني فقط تبادل المواقع

بل يعني كشف القلب

من نحن؟

وماذا فعلنا ببعضنا، لنصل إلى هذا الجحيم؟

manal002002@gmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!