رأي

خطاب الكراهية الطريق لانهيار المجتمعات؛ حين غابت زينب (٢-٦)

د. فاطمة الزين الغالي

كلمات تُشعل النار”
في الأيام التي تلت، تغيّر شيء ما في هواء الحيّ. لم يعد ضجيج السوق كما كان، ولا عادت الوجوه مطمئنة كما في السابق. بدأ الناس يتبادلون نظرات حذرة، وتسلل إلى الأحاديث اليومية نوع من التوتر المكتوم. كانت البداية كهمسٍ خفيف، ثم ما لبث أن تحوّل إلى همهمة متواصلة، تملأ الأذان وتفسد القلوب.
بدأت منشورات غريبة تظهر على صفحات فيسبوك تحمل أسماء مستعارة، تتحدث عن “خطر الآخر”، و”ضرورة حماية الهوية”، و”تطهير الحي من الغرباء”. كانت الجُمل مكتوبة بعناية، مشحونة بالعاطفة، مدعومة بصور مزيفة، وشهادات مشكوك في صحتها. بعض الشباب بدأوا يشاركونها دون أن يقرأوا، والبعض الآخر يعلّق: “وأخيرًا أحد قال الحقيقة”.
من بين أولئك الشباب كان “ود السُّوق” – فتى مراهق، كثير التسكع، قليل الكلام، يعمل أحيانًا في سوق الخضار، ويقضي أكثر وقته على هاتفه. تأثر سريعًا بما يقرأ، وبدأ يردّد العبارات كما لو كانت شعارات وطنية.
– “نحن أصحاب الأرض، ولن نسمح بسرقتها!”
– “هناك مؤامرة تُطبخ ضدنا، والحكومة نايمة!”
– “كل من لا يشبهنا، لا مكان له بيننا!”
صار ود السوق يوزّع منشورات مطبوعة في الليل، يعلقها على أعمدة الكهرباء. كتب أحدها بخط يده:
“احذروا.. جيرانكم ليسوا كما تظنون!”
في المدرسة، لاحظت زينب أن صديقتها مريم لم تأتِ. مرّ يوم ويومان، ثم أسبوع. عندما سألت المعلمة، ردّت عليها بصوت منخفض:
– “عائلتهم قررت أن تنتقل إلى منطقة أخرى.”
– “لكن لماذا؟!” سألت زينب.
– “قيل إنهم تلقّوا تهديدات… مجرد إشاعات، لا تقلقي.”
لكن زينب قلقت. كثيرًا.
حتى في طريق السوق، لم تعد خطوات الناس مطمئنة. الحاجة علوية نفسها باتت تُغلق الباب مبكرًا، وتهمس في صلاة المغرب:
– “اللهم احفظنا من شرّ النفوس، ومن الفتن ما ظهر منها وما بطن.”
في إحدى الليالي، جلس ود السوق في المقهى يحيط به عدد من الشباب. كانوا يتحدثون بصوت خافت، لكن كلماتهم كانت مريرة:
– “يجب أن نتحرك قبل أن يفوت الأوان.”
– “من يسكت الآن، يُعدّ خائنًا.”
– “الليلة نعلّق منشورات على أبواب بيوتهم.”
في تلك الليلة، وجدت زينب عند باب بيتها ورقة مكتوب عليها:
“أنتم لستم منّا… ولا مرحبًا بكم!”
أخذتها إلى جدتها وهي ترتجف. قرأت الحاجة علوية الورقة بصمت، ثم وضعتها في موقد الفحم وأحرقتها.
– “نحن من هذا التراب… ولسنا بحاجة إلى شهادة من أحد.”
ثم مسحت دموع زينب وقالت:
– “نامي يا بنتي… غدًا يوم جديد.”
لكن الغد لم يحمل الطمأنينة. بل حمل أول شرارة علنية للنار التي بدأت تشتعل في القلوب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!