
كلما ترددت على مسامعي هتافات مشبعة بالغوغائية والديماجوجية، مثل شعار “الجنجويد ينحل” الذي يرفعه بعض أعضاء الجوقة السياسية دون تمحيص أو وعي، أجد نفسي مشدوهاً متسائلاً: من هم الجنجويد تحديداً؟ وأين يتموضعون الآن؟
فإن كانوا يعنون بـ”الجنجويد” تلك المليشيات التي تأسست عام 2003 عبر الاستخبارات العسكرية، والتي جرى تشكيلها من بعض القبائل العربية لمواجهة الحركات المسلحة الناشئة آنذاك، والتي قامت على أسس عرقية وسمّت نفسها في بداياتها “حركة تحرير دارفور”، فهنا لا بد من وضع الأمور في نصابها.
لقد نشأت تلك الحركات بمواقف معادية صريحة تجاه المكونات العربية في دارفور، مما وفّر للمخلوع عمر البشير وأجهزته الأمنية والسياسية فرصة لاستغلال هذا التناقض، وتوظيفه في حربه على ما سُمي وقتها بـ”تمرد دارفور”. وكان من يشرف على هذه القوات الفريق عوض ابن عوف والفريق الدابي، وبمعاونة أحمد هارون وآخرين، جميعهم اليوم مطلوبون أمام العدالة الدولية بتهم تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وهنا يبرز سؤال جوهري؛ ما العلاقة بين تلك المليشيات وبين قوات الدعم السريع التي تأسست رسمياً بموجب قانون في عام 2013، وأجاز البرلمان قانونها في 2017، لتصبح جزءاً من المنظومة العسكرية الوطنية وتخضع مباشرة للقائد الأعلى للقوات المسلحة؟
إن قوات الدعم السريع – كما هو معلوم – انحازت مبكراً لثورة ديسمبر المجيدة، وأسهمت بفعالية في دفعها نحو تحقيق شعاراتها الأساسية: الحرية، السلام، والعدالة.
وكان قائدها، الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، هو من وقّع الوثيقة الدستورية إلى جانب القوى المدنية الممثلة للثورة، والتي نصّت على أن الدعم السريع قوة نظامية تابعة للقائد الأعلى للقوات المسلحة، إلى أن تم لاحقاً إلغاء المادة (5) ليُعاد تصنيفها كقوة ذات طبيعة خاصة، شأنها شأن القوات ذات المهام المحددة.
وبذلك، أصبح حميدتي نائباً لرئيس مجلس السيادة، ورئيساً للجنة الاقتصادية التي كان يشاركه فيها رئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك، كما أوكل إليه ملف السلام، الذي تُوّج باتفاق جوبا رغم التحديات الكبرى التي واجهته، وعلى رأسها؛ أطماع بعض الحركات المسلحة، تملص القوات المسلحة من تنفيذ الترتيبات الأمنية، ضعف الإرادة السياسية، وتربص الدولة العميقة بقيادة الحركة الإسلامية وواجهتها السياسية؛ المؤتمر الوطني.
منذ ذلك الحين، ظلت قوات الدعم السريع تتموضع في الاتجاه الصحيح، منحازة لخيار التغيير المدني الديمقراطي. وقد وقفت بقوة إلى جانب الاتفاق الإطاري، الذي صُمّم كحل للخروج من الأزمة السياسية الممتدة، ووجد تأييداً واسعاً من قوى الثورة، إلى جانب دعم معتبر من المجتمع الدولي، ممثلاً في الأمم المتحدة، والاتحاد الإفريقي، والاتحاد الأوروبي، ودول الترويكا، في إطار الآليتين الثلاثية والرباعية.
وقد أكدت تلك الجهات على ضرورة تسليم السلطة للمدنيين، وعودة الجيش إلى ثكناته، وإنهاء تدخل المؤسسة العسكرية في الشأنين السياسي والاقتصادي. ولأن هذا التوجه الإصلاحي لم يُرضِ الأطراف الراغبة في استعادة السلطة بالقوة، فقد تم إشعال الحرب في 15 أبريل 2023 لقطع الطريق أمام الثورة، وإعادة العجلة إلى الوراء فوق أشلاء الأبرياء.
ورغم صمت المجتمع الدولي المريب، خاضت قوات الدعم السريع تلك المعركة بشجاعة، وسعت إلى تحجيم النفوذ المتزايد لجماعة الإخوان المسلمين التي اختطفت الجيش السوداني لمصلحتها، وحققت انتصارات بارزة كبّلت المشروع الانقلابي، وأوشكت على افشال محاولاته في جر البلاد إلى حرب أهلية شاملة ولكن إرادة نافذة.
في المقابل، مارست الأطراف المعادية للثورة جرائم مروعة يندى لها الجبين، حيث قصف المدنيين العزل، تدمير البنية التحتية، هدم المنازل، القتل على الهوية، تسليح وتحشيد القبائل، حتى غرق السودان في مستنقع الارتزاق المسلح، والتطرف الديني، وكتائب الإرهاب.
ورغم هذا المشهد الكارثي، صمدت قوات الدعم السريع، وانتصر أفرادها بأخلاقهم وقيمهم، قبل أن ينتصروا بسلاحهم، مستندين إلى إيمان عميق بعدالة قضيتهم ورغبتهم في بناء سودان جديد.
إن من يتحدثون الجنجويد يدركون تماماً أنه لا وجود اليوم لما يُسمى بالجنجويد إلا في أذهانهم المريضة، وكان الأجدر بهم أن يطالبوا بتسليم المجرمين الحقيقيين إلى محكمة العدل الدولية، لا أن يهاجموا قوى وطنية ساهمت في الانتقال السياسي.
إن “الجنجويد”، في سياقهم الأصلي، لم يكونوا سوى أداة من أدوات عقلية الدولة المركزية النخبوية، التي ظلّت تُغذي الفتن والصراعات بين المكونات الاجتماعية السودانية، وتستخدمها في صراعاتها الإقليمية، لا سيما لصالح المشروع المصري الذي استأثر بثروات البلاد، وصادر قرارها السياسي والسيادي.