
في لحظة فارقة من تاريخ السودان، لم يعد خفياً أن ثمة تحوّلاً جذرياً يعصف بالمشهد السياسي والعسكري، قلب موازين القوة ونقل البلاد من حالة التبعية والجمود إلى أفق مفتوح على احتمالات التحرر من قبضة النخبة القديمة، وسط هذا المشهد المتداخل، برزت علامات ارتباك شديد داخل تنظيم الإخوان المسلمين، ليس فقط بفعل الضغط العسكري الذي فرضته قوات الدع#ـم ال#سـري*ع، بل أيضاً نتيجة فقدانهم المتسارع للمشروعية الشعبية التي طالما استثمروها عبر اختطاف الدين وتوظيفه في لعبة السلطة. أصبح الإخوان اليوم تياراً مأزوماً، ممزقاً بين محاولة التماهي مع خطاب الدولة العميقة وبين استدعاء شعارات ثورية فقدت تأثيرها أمام أجيال جديدة لا تؤمن بخرافة الخلافة ولا تقبل تسييس الدين لتبرير العنف والاستبداد.
أما ما يسمى بالقوى المشتركة، فلم تكن يوماً ممثلاً حقيقياً للثورة، بل تشكلت كمجموعة انتهازية تحالفت مع المؤسسة العسكرية في لحظة فراغ سياسي، واستثمرت شعار الثورة لفرض سلطة مدنية شكلية، سرعان ما انكشفت خيوطها بعد أن تم تجاوزها كلياً من قبل الجيش، وتلاشى رصيدها السياسي أمام جمهور اكتشف زيف تمثيلها ومحدودية رؤيتها.
وفي الوقت ذاته، شهد المشهد الإقليمي تطوراً خطيراً كشف التصدع الحقيقي في محور قطر – إيران، ليس بسبب تحركات حميدتي، بل نتيجة تصعيد عسكري مباشر حين وجهت طهران ضربات إلى قواعد أمريكية داخل الأراضي القطرية، هذه الحادثة التي تمثل تحولاً غير مسبوق في طبيعة العلاقة بين الطرفين، تهدد بانفجار الوضع بين إيران والدوحة، وتضع قطر في مأزق مزدوج: بين الحليف العقائدي الإيراني من جهة، والالتزامات الأمنية مع الولايات المتحدة من جهة أخرى، انعكاس هذا التوتر الإقليمي على الداخل السوداني كان فورياً، إذ يعتمد الإخوان في السودان على هذا المحور المأزوم كظهر سياسي ومالي، وهو ما يعني أن انفجار الخلاف بين ركنيه الرئيسيين يعرّي التنظيم أكثر، ويجرده من أي غطاء خارجي يعوّل عليه للبقاء.
وفي خضم هذا الانكشاف، جاء ظهور الفريق أول مح#مد حم&دان دق$لو ح*ميدتي كعامل أربك المعادلة من الداخل، لا فقط بقوة ميدانية، بل برؤية سياسية تستند إلى تحالف جديد يتجاوز المركز والنخب التقليدية، ويضع أولويات الوطن فوق الأجندات الإقليمية، حم&يدتي القائد الذي نشأ خارج الخرطوم، أعاد رسم خريطة الفعل السياسي والعسكري، وأثبت أنه قادر على بناء شراكات دولية جديدة بعد سقوط المحور التقليدي الذي ظل يدعم الإخوان في السودان.
هكذا، في زمن التشظي والانكشاف، لا يبدو أن تيارات الإسلام السياسي قادرة على ترتيب أوراقها، ولا أن حلفاءها الإقليميين قادرون على الاستمرار بنفس منطق الرعاية والدعم، من قلب الهامش يخرج خطاب بديل، يطرح مفهوماً جديداً للعدالة والسيادة، بينما تتهاوى تحالفات الماضي وتُفتح أبواب السودان على مرحلة قد تكون أكثر جرأة من كل ما سبق.