
منذ اندلاع حرب 15 أبريل، تتوالى التساؤلات الحادة حول مستقبل السودان السياسي: هل ينجح السودانيون في إنتاج مشروع مدني وطني جديد يعيد البلاد إلى منصة التأسيس، أم أننا نشهد جولة أخرى من إعادة تدوير التحالفات القديمة بذات العقلية التي ساهمت في صناعة أزمات السودان المتناسلة؟ السؤال لم يعد مجرد ترفٍ نظري، بل أصبح ضرورة وجودية في ظل تفكك الدولة، وتحلل مؤسساتها، وتنامي ظواهر العنف والتمرد المسلح.
في قلب هذه الفوضى، برزت ثلاثة تحالفات مدنية رئيسية تعكس بوضوح هشاشة النخب، واستمرار أزمة التمثيل السياسي والاجتماعي، بل واحتدام الصراع داخل ما كان يُعرف بتحالف “تقدم” بقيادة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك.
انشق تحالف “التأسيس” عن “تقدم”، ليشكل منصة عريضة جمعت بين أحزاب تقليدية وازنة مثل حزب الأمة القومي والحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل، وعدد من الحركات المسلحة. الأهم، أنه يضم قوات الدعم السريع، إلى جانب حركات دارفورية مؤثرة كـ”تجمع قوى تحرير السودان” بقيادة الطاهر حجر، و”حركة تحرير السودان – المجلس الانتقالي” بقيادة الهادي إدريس، بالإضافة إلى “الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال” بقيادة عبد العزيز الحلو. يمثل هذا التحالف محاولة لصياغة مشهد سياسي جديد يقوم على مزيج من التوازن العسكري والمدني، ويُعد أول تحالف كبير يعترف صراحة بواقع ما بعد 15 أبريل، الذي أزاح الجيش السوداني التقليدي عن كونه الفاعل الوحيد في المعادلة الوطنية.
يأتي تحالف “المدني الديمقراطي – صمود” كنتاج لميلاد تحالف التأسيس، ويضم في عضويته قوى مدنية تنادي بانفكاك السياسة عن السلاح، وتتمسك بمبدأ بناء الدولة المدنية الخالصة. رغم تقاطعه في بعض مكوناته مع مشروع “تقدم” القديم، إلا أنه يضع نفسه في موقع أخلاقي متميز من خلال رفضه الصريح لأي شراكة مع القوى المسلحة. لكن، ورغم شعاراته العالية، لا يزال يعاني من ذات المعضلات التي أطاحت بتحالفات سابقة: التمثيل النخبوي، وضعف الحضور في هوامش السودان، وتنازع الزعامات.
في المقابل، تواصل قوى المركز المؤيدة لسلطة بورتسودان (التي تتحالف فعليًا مع قيادة الجيش)، تقديم نفسها كمدافع عن وحدة الدولة ومؤسساتها. إلا أن هذا التيار بات يواجه أزمات متفاقمة، علاوة على تململ أغلبية هذه من سيطرة الجيش والإخوان على مفاصل القرار الأمر الذي ادى لخروج “تحالف التراضي الوطني” بقيادة مبارك الفاضل، وفقدان الثقة بين مكوناته، وتآكل شعبيته كنتيجة لاستمرار الحرب.
هذه الانقسامات لا تعكس تعددية صحية، بقدر ما تشير إلى عمق الأزمة البنيوية في العمل السياسي السوداني. فغالبية هذه التحالفات – سواء كانت مدنية أو عسكرية – لا تزال رهينة مركزية الخرطوم، وتكاد تغيب عنها القوى المجتمعية القاعدية من الهوامش، باستثناء التمثيل العسكري لبعض الحركات، والذي لا يعوّض غياب البنى الاجتماعية الحية.
لقد ظل التهميش التاريخي لأقاليم السودان – خاصة الأحزمة الرعوية – هو الثابت الوحيد في معادلة السلطة، حيث يتم الزج بأبنائها في الرتب الدنيا للجيش والخدمة العامة، بينما يحتكر القرار السياسي والإداري نخبة محددة تتمركز في العاصمة. لم نشهد بعد، حتى في أشد لحظات انهيار الدولة، انتقالًا حقيقيًا للسلطة إلى الفضاءات الجغرافية المهمّشة، لا في الموارد، ولا في التمثيل السياسي العادل.
المفارقة أن الحرب، رغم فظاعتها، خلخلت هيكل التحالفات التقليدية، وفرضت واقعًا جديدًا يكرّس نهاية “الجيش الواحد – الدولة الواحدة” الذي أُنتج في المركز منذ الاستقلال. إن صعود الدعم السريع قد كسر احتكار الجيش السوداني للقرار الوطني، وأعاد النقاش إلى جذوره: من يملك شرعية تمثيل السودان؟ هل هي مؤسسة الجيش الموروثة؟ أم القوى الاجتماعية التي حُرمت من الفعل السياسي لعقود؟
الانقسام داخل تحالف “تقدم” يعكس بوضوح أزمة النخب الديمقراطية نفسها، فهي تعاني من ضيق الأفق السياسي، وتضارب المصالح، وعدم القدرة على صياغة رؤية شاملة لمستقبل السودان. ورغم الشعارات المرفوعة عن “الانتقال المدني” و”التمثيل العادل”، فشل التحالف في تضمين قوى الريف والحزام الرعوي والنساء والشباب ككتلة حرجة في قيادة العملية السياسية.
ومع انعقاد المؤتمر تأسيس، وضع كل هذه الكيانات أمام لحظة اختبار حاسمة: هل ستظل تُعيد إنتاج نفس النخب والعقليات؟ أم أنها تسعى لتأسيس لتحالف سياسي مختلف، يتصالح مع حقيقة التعدد الإثني والثقافي والجغرافي للسودان، ويُعيد بناء الدولة على أسس لا مركزية حقيقية؟
التحالفات في السودان دائما تقف على مفترق طرق: إما أن تختار التمترس خلف الشعارات القديمة، وتعميق الصراع الأهلي باسم المدنية أو الوطنية أو الاستقرار، وإما أن ترتقي إلى لحظة وطنية شجاعة من تغول المركزية التاريخية، وتفتح الباب لتأسيس مشروع وطني جامع، مدني المضمون، لامركزي البنية، يعكس التنوع ويحقق العدالة.
ربما لن يكون هذا التحول سهلًا ولا سريعًا، لكن المؤكد أن السودان لا يحتمل مزيدًا من الاجترار السياسي. الزمن ليس في صالح أحد، وإن غدًا لناظره قريب.