رأي

خطاب الكراهية الطريق لانهيار المجتمعات؛ حين غابت زينت (٣-٦)

د. فاطمة الزين الغالي

الخبز المُرّ(!)

بدأ الخبز في الندرة. لم يكن ذلك جديدًا على سكان حيّ “القلعة”، لكن هذه المرة كانت الأزمة مختلفة. الطوابير أطول، التذمر أعلى، والعيون أكثر توجسًا من بعضها البعض. ومع ندرة الخبز، وارتفاع سعر الوقود، وغياب الكهرباء، بدأ الناس ينظرون إلى بعضهم لا كجيران، بل كمنافسين في سباق النجاة.

عند المخبز، تسربت شائعة تقول إن “الفرن يوزع الخبز بكميات مضاعفة لأهالي الجهة الأخرى”. لا أحد تحقق من صحتها، لكنّها كانت كافية لتشعل مشادّات كلامية، وتكسر حاجز الصبر.

صرخ أحد الشباب:

– “نحن من نُجَاهد ونتعب، وهم من ينعمون بالدقيق المدعوم؟!”

وردّ عليه آخر:

– “الدولة كلها في جيبهم، ونحن غرباء في أرضنا!”

في السوق، بدأت ترتفع الأسعار على أسس غير منطقية، وتُخبّأ البضائع في المتاجر التابعة. لم يكن ذلك بفعل التجار وحدهم، بل بسبب ما يُنشر في السرّ والعلن من دعوات لتجفيف موارد “الآخر”، باعتبار أن امتلاكه لها تهديدٌ للهوية الجماعية.

في المساء، جلس العمدة في ديوانه. كان مجلسه عامرًا كعادته، لكن الكلام تغير.

قال بصوته الثقيل:

– “السكوت لم يعد خيارًا. هناك من يخطط للهيمنة على هذا الحيّ… على البلد كلها. انظروا من يسيطر على المدارس الخاصة، على شبكات التحويلات المالية، على منظمات الإغاثة… كل شيء بات بيدهم.”

هزّ الرجال رؤوسهم في صمت. أحدهم قال:

– “حتى لجنة الخبز فيها خمسة منهم… ونحن صفر!”

ثم دخل ود السوق، يحمل هاتفه، يُريهم مقطعًا يُظهر طابورًا طويلًا من الناس ينتظرون الدقيق، ويهمس:

– “شوفوا منو في أول الصف دا… وكت عرفت، ما تستغربوا من الجاي.”

كان المقطع قديمًا، من حي آخر، وربما مفبركًا، لكن لا أحد تحقّق. انتشرت اللقطة كالنار في الهشيم، وصارت عنوانًا للصراع الجديد: “نحن الجوعى، وهم المتخمون”.

في بيت زينب، شعرت الطفلة الصغيرة بتغير نبرة الناس في الحي. لاحظت أن البقالة القريبة أغلقت أبوابها فجأة. سألت جدتها:

– “لماذا؟”

ردّت الحاجة علوية:

– “قالوا إنه لا يبيع إلا لأهله.”

– “لكننا نشتري منه منذ سنوات!”

– “في زمن الكراهية، يُنسى كل شيء يا بنتي، حتى الخبز الذي تقاسموه معًا.”

عند المدرسة، لم تفتح المقصف أبوابه. معلمة الحساب تغيّبت لأسباب غير معلومة. أولياء الأمور بدؤوا يتشاجرون أمام البوابة. والبعض قال إن هناك “قائمة سوداء” تُعدّ في الخفاء.

وفي إحدى ليالي الجمعة، وقعت الحادثة.

شابٌ متهور قفز على طابور الخبز، وقال بصوت عالٍ:

– “أنا لا أنتظر مع عبيد الأرض!”

ضُرب، وجُرح، وأُشيع بعدها أنه “ضحية مؤامرة”. صارت قصته قميص عثمان، يُروى في كل المجالس، وتُرفق بصور مشوهة، وتعليقات مسمومة.

خرج العمدة بعدها ببيان غاضب، دعا فيه إلى “تنظيف مؤسسات الحي من الخونة والمُندسّين”، ووعد بلجان أحياء “تراقب التموين وتحمي حقوق السكان الأصليين”.

في تلك الليلة، لم تجد زينب حليبًا في المتجر. قالت جدتها للبائع:

– “لكنها طفلة، ألا تشفع لها براءتها؟”

– “ما عدنا نعرف من هو بريء ومن هو مُندس!”

قالها البائع، وأغلق الباب دون أن ينظر في وجهها.

في طريق العودة، همست زينب:

– “جدتي… أنا جائعة.”

فردّت الحاجة علوية بصوت متهدج:

– “الخبز يا بنتي… صار مُرًّا، لأنه خُبز بالكراهية.”

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!