رأي

تهمشونا لسبعين عامًا وتقولون لنا: “حكومة تكنوقراط”؟!

خالد كودي، بوسطن

حول تهميش السودانيين وبنية الدولة القديمة واستراتيجية الاحتيال تكنوقراطيا!

تمهيد: من التهميش البنيوي إلى التكنوقراط المُقنَّع:
حين يطرح الخطاب السياسي السائد اليوم في السودان ما يُسمى بـ”حكومة التكنوقراط”، فإنه يبدو – للوهلة الأولى – كدعوة حيادية، منطقية، إلى استجلاب الكفاءات والخبرات لتقود المرحلة الانتقالية أو التأسيسية في وطن متعثر النهوض منذ استقلاله قبل سبعين عاما. غير أن هذا الطرح، حين يُفصَل عن السياق التاريخي والاجتماعي السوداني، يتحول إلى أداة لإعادة إنتاج التهميش البنيوي، وإلى قناع جديد لسيطرة النخب المركزية التي حكمت السودان منذ ما بعد الاستعمار تحت شعارات الدولة الوطنية، بينما مارست الاستعمار الداخلي وعبره مارست إقصاءً عميقًا لمواطنيها من مناطق الهامش.
فالقول بـ”حكومة التكنوقراط” دون مساءلة البنية التي صنعت التفاوت العرقي والطبقي والجهوي هو احتيال على التغيير، حيث يُبقي على الهرم الاجتماعي القديم كما هو، ويعيد إنتاج مآسيه تحت مسمى الكفاءة والحياد.

أولًا: السودان كدولة ما بعد استعمارية لم تَخرج من الاستعمار:
منذ استقلاله في 1956، لم يتجاوز السودان بنية الدولة التي أسسها المستعمر البريطاني- المصري: دولة مركزية، عربية–إسلامية، تدار من الخرطوم، وتهمّش الأطراف في دارفور، جبال النوبة، النيل الأزرق، شرق السودان، وغيرها.
وفقًا لتقارير البنك الدولي، فإن حوالي 70% من الإنفاق العام في السودان حتى 2010 كان يتركز في العاصمة والمركز، بينما كانت أكثر من 50% من المدارس الريفية في غرب وجنوب السودان تعمل دون معلمين مؤهلين أو بنى تحتية مناسبة (World Bank Education Sector Review, 2012)
في دراسة صادرة عن اليونيسف عام 2016، أظهرت الإحصاءات أن:
65%نسبة الأمية في ولايات دارفور تتجاوز
فقط 12% من الفتيات في المناطق المهمشة يُكملن المرحلة الثانوية
معدلات الفقر تتجاوز 80% في ولايات مثل غرب دارفور وجنوب كردفان، مقارنة بـ20–25% في الخرطوم ونهر النيل.

ثانيًا: التهميش ليس صدفة، بل سياسة ممنهجة:
التهميش في السودان لم يكن ناتجًا عن ضعف إداري، بل هو مشروع سياسي- ثقافي- اقتصادي مؤسس على التمييز العرقي والجهوي والديني. ومن أبرز أدوات هذا التهميش:
١/ التمييز في توزيع الموارد والخدمات: حُرمت مناطق واسعة من التنمية والبنى التحتية، رغم أنها تحتضن موارد طبيعية ضخمة. على سبيل المثال، يساهم إقليم دارفور بنحو 45% من الثروة الحيوانية، لكنه يحصل على أقل من 5% من ميزانية الخدمات الزراعية والبيطرية
(UNDP Sudan Report, 2018)
٢/ الإقصاء من الوظائف العليا والدولة: بحسب تقرير منظمة الشفافية الدولية لعام 2020، فإن 85% من الوظائف القيادية في السودان بعد الثورة ظلت تحت سيطرة أبناء المركز.
٣/ نظام تعليمي وتمثيلي إقصائي: تم إنتاج نظام تعليمي يكرّس الهيمنة الثقافية الأحادية، ويُضعف فرص أبناء الهامش في التنافس العادل.

ثالثًا: “التكنوقراط” كاستمرار للتراتبية الاجتماعية:
حين تُطرح اليوم من البعض “حكومة تكنوقراط”، دون تغيير في معايير التمثيل السياسي والتاريخي، فإنها عمليًا تعني إعادة تمكين من:
– تم تأهيلهم تعليمياً على مدى عقود من التحيز الطبقي والجغرافي.
– أُتيحت لهم فرص التدرج الوظيفي، والابتعاث، والحضور في مؤسسات الدولة.
– بينما ظل ملايين السودانيين محرومين من أبسط مقومات “الكفاءة”، فقط لأنهم وُلدوا في المكان الخطأ، أو تَحدثوا بلغة غير العربية، أو انتموا لهوية “إثنية” غير مرغوب بها.
بالتالي، فإن الحديث عن “كفاءة” مجردة يفشل في قراءة الجذور البنيوية للحرمان والإقصاء، ويُفرغ مشروع التغيير من مضمونه الجذري.

رابعًا: مقاربة مقتضبه مع التجربة الأميركية بعد تحرير العبيد:
بعد تحرير العبيد في الولايات المتحدة عام 1865، طُرحت أفكار “التنمية بالأكفاء” و”حكومة البيض المتعلمين” بدلًا من منح الأميركيين الأفارقة فرصًا حقيقية للمشاركة السياسية. فتم:
– منع السود من التصويت عبر قوانين
Jim Crow.
– حصرهم في أعمال منخفضة الأجر
– حرمانهم من التعليم العالي النوعي
ورغم وجود كفاءات كثيرة و بارزة من السود، إلا أن خطاب “الكفاءة” استخدم بكثير من الاحتيال لحماية الهيمنة البيضاء القديمة تماما كما يستخدم في السياق السوداني.
الأمر نفسه حدث في جنوب إفريقيا ما بعد الفصل العنصري، حيث أعاقت قوى البيروقراطية البيضاء جهود نقل السلطة الاقتصادية والاجتماعية للسود، رغم انتهاء الفصل العنصري سياسيًا.

خامسًا: طبيعة المشكلة في السودان ليست تقنية:
المشكلة السودانية ليست في غياب المهارات التقنية فقط، بل في
– غياب العدالة التاريخية
– غياب التمثيل السياسي الحقيقي للمهمشين بدلا عن استخدام استراتيجية التمثيل التضليلي.
– هيمنة نخبة لم تنفصل عن إرث الاستعمار وعن تصور الدولة كمزرعة خاصة
– إن الأزمة وجودية، وتحتاج إلى إعادة تأسيس شامل للدولة، وهو ما لا يمكن أن يحققه “التكنوقراط” وحدهم

سادسًا: نعم للكفاءة، ولكن داخل مشروع سياسي تحرري
التكنوقراط وأصحاب الكفاءات التقنية مطلوبون حتمًا، لكنهم لا يمكن أن يحلوا محل القيادة السياسية ذات الوعي التاريخي–الاجتماعي. إن قيادة المرحلة المقبلة يجب أن:
– تستند إلى رؤية للعدالة التاريخية
– تعترف بالجرائم البنيوية التي ارتُكبت بحق الهامش
– تدمج أبناء وبنات المناطق المهمشة في قلب السلطة، لا على هامشها
– كما يجب أن ترافق هذه القيادة برامج تمييز إيجابي
(Affirmative Action)
تشمل إجراءات مثل:
– تخصيص نسب في الوظائف والبعثات لأبناء المناطق المهمشة.
– برامج دعم تعليمية وصحية في المناطق المهمشة.
– تمكين سياسي فعلي عبر أدوات تشاركية.

اخيرا: لا تكنوقراط بلا عدالة تاريخية… ولا دولة بلا تفكيك بنية التهميش:
إن الدعوة إلى “حكومة تكنوقراط” في السودان، كما تطرحها سلطة الأمر الواقع في بورتسودان – وعلى رأسها عبد الفتاح البرهان ورءيس وزراءه كامل إدريس – ليست سوى إعادة إنتاج لحيلة نخبوية قديمة ترتدي قناعًا جديدًا. فبدلاً من مواجهة الأسئلة الكبرى حول الجذور البنيوية لأزمات السودان: التهميش، العنصرية، احتكار السلطة والثروة، يعيد هذا الخطاب تدوير فشل الدولة القديمة من خلال تجميله بلغة الكفاءة والحياد التقني، دون أن يجرؤ على تفكيك البنية التي صنعت الإقصاء ذاته.

تصريحات البرهان ومشاريع كامل إدريس تقوم على:
– إعادة مركزية الدولة لصالح الخرطوم–بورتسودان دون الاعتراف بالهويات والتطلعات المتعددة لشعوب السودان
– الدعوة لمؤتمر دستوري بلا قواعد مسبقة، ولا ضمانات تمثيلية للمهمشين، مما يعيد لعبة التفاوض إلى ذات طاولة النخبة.
– الترويج لـ”التكنوقراط المحايدين” من داخل منظومة انتفاع نخبوي تاريخي، لا يعكس التنوع الاجتماعي والسياسي والثقافي للمجتمع السوداني.
هذه الرؤية، بكل وضوح، ليست إلا امتدادًا لنفس سلوك النخبة المركزية التي حكمت السودان لعقود، وقادت إلى تمزيقه، وإلى الحروب الأهلية، والانفصال، والانقلابات، والمجاعات. إنها وصفة لإبقاء الهامش على هامشه، والفقراء في فقرهم، والضحايا بلا عدالة.
في المقابل، فإن لا مستقبل لسودان حديث، ديمقراطي، مستقر، ومتعدد، إلا من خلال مشروع سياسي تحرري، يعيد تأسيس الدولة على أسس جديدة وجذرية. في هذا السياق، يمثل ميثاق “تأسيس” الذي تبنته قوى الهامش والمقاومة والتحرر، إطارًا عقلانيًا، واقعياً، وتاريخياً لبناء دولة عادلة. ومن أبرز ملامحه:
١/ الاعتراف بالتعدد الإثني والثقافي واللغوي والديني بوصفه مصدر قوة، وليس تهديدًا.
٢/ الحق في تقرير المصير كأداة سياسية لإنهاء التهميش، لا لتفكيك البلاد.
٣/ العلمانية كضمان للمواطنة المتساوية، بعيدًا عن توظيف الدين في الهيمنة.
٤/ العدالة التاريخية، لا مجرد العدالة الانتقالية، أي الاعتراف بالظلم البنيوي المتراكم وجبر الضرر.
٥/ تفكيك الأجهزة القمعية وإعادة بناء الجيش على أسس قومية، لا استبدادية.
٦/ التمييز الإيجابي والتعزيز المقصود لأبناء وبنات المناطق المهمشة في كل مستويات السلطة والتعليم والاقتصاد.
٧/ التحالف بين القوى المدنية والمسلحة التي نشأت في سياق مقاومة، لا في سياق صفقة نخب لبناء جيش وطني جديد
بهذه الرؤية وحدها، يمكن للسودان أن ينكسر من قيد تاريخه الظالم، ويصنع مستقبلاً لا يُدار فيه الشعب من وراء مكاتب النخب، بل من خلال إرادة تحررية تمثل كل من عانى واستُثني، وتملك الشجاعة أن تعيد بناء الدولة من جذورها
ولذلك، فإن حكومة تكنوقراط بلا عدالة تاريخية، وبدون مشروع تأسيسي يعيد الاعتبار للضحايا ويمنحهم أدوات القيادة، ليست سوى واجهة ناعمة لإبقاء القديم في ثوبه الجديد. إن وقت الشعب قد حان، ووقت النخبة والفشل انتهى.

النضال مستمر والنصر اكيد.

(أدوات البحث التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!