
في لحظة تتهاوى فيها أسس الدولة السودانية القديمة، تتبدى المفارقة الحادة بين نخب سياسية لم تعد تملك مشروعاً وطنياً، وشعوب تعيد تشكيل وعيها على وقع الخراب، وتصوغ علاقتها الجديدة مع المجال العام من خارج منطق الدولة ، هذه المفارقة ليست وليدة هذه الحرب فحسب، بل هي امتداد تاريخي لتراكمات التهميش، ولعجز النخبة المزمن عن قراءة التحولات المجتمعية العميقة، وفهم ديناميكيات القوى الجديدة التي تتشكل على الهامش، وتتجاوز مركز الدولة القديم.
النخبة السودانية، التي توارثت السلطة والمكانة منذ الاستقلال، لم تُنتج مشروعاً سياسياً يعكس تعقيدات الواقع وتعدد مكونات البلاد ، تمترست خلف شعارات فارغة ومقولات نخبوية مستهلكة، وأدمنت الخطابات التصالحية مع بنية الدولة القديمة، دون أن تجرؤ على مساءلة أساسها أو إعادة بنائها ، ولأن هذه النخبة قد استنفدت قدرتها على الإبداع، تحولت إلى وسيط مشلول بين الداخل والخارج، وإلى طبقة تعيد إنتاج الفشل، مستندة إلى إرث لم تعد له شرعية ولا فاعلية.
في المقابل، تقف الشعوب السودانية اليوم في طور التشكل، وهي لا تنتظر من أحد أن يمنحها دوراً في التاريخ، بل تنتزعه عبر المعاناة اليومية والمقاومة المجتمعية ، في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق والشرق، كما في أطراف المدن الكبرى ومخيمات النزوح، ينمو وعي سياسي جديد، يتجاوز الهويات الضيقة التي طالما استخدمتها النخب كأدوات تعبئة أو تفرقة ، إنه وعي يقوم على إدراك الظلم البنيوي، وعلى فهم آليات الإقصاء، وعلى توق إلى العدالة لا يجد له تمثيلاً داخل مؤسسات الدولة أو في خطاب النخبة.
من رحم هذا التشكيل الشعبي تتولد احتمالات جديدة، لكن هذه الاحتمالات لا تزال تفتقر إلى الوسيط التاريخي القادر على تحويل الوعي إلى مشروع ، فلا النخبة الحالية تصلح لهذا الدور، ولا الأحزاب القديمة قادرة على حمل هذا الوعي أو التعبير عنه ، وحده فعل التأسيس الجذري، القائم على القطع مع الموروث السياسي النخبوي، يمكن أن يخلق جسراً بين الشعوب المتشكلة ومشروع الدولة الجديدة ، إنه تأسيس لا يقوم على التسويات الفوقية، بل على كتابة عقد اجتماعي جديد، تساهم فيه الأطراف لا كمجرد مكونات هامشية، بل كأركان تأسيس حقيقية.
هذا الصراع بين نخبة بلا مشروع وشعوب تتلمس طريقها نحو الوعي لا يحسمه الزمن وحده، بل تحسمه الإرادة السياسية لمن يلتقط لحظة التحول ويصوغها في أفق وطني جديد ، فإما أن تُترجم هذه الحيوية الشعبية إلى دولة تمثل شعوبها بعدالة وكرامة، أو يُترك الفراغ لتملؤه قوى العنف والفوضى والانقسامات ، وحينها لن يكون ما يحدث مجرد تعثر سياسي، بل انهيار أخلاقي وفكري لنخبة خانت تاريخ شعبها، وعجزت حتى عن الانسحاب بشرف.
إن اللحظة التي نعيشها ليست نهاية، بل بدايات مضطربة لتاريخ لم يُكتب بعد ، والشعوب التي تتشكل اليوم قد تكون نواة وطن مختلف، إذا وجدت من يصوغ أحلامها لا من يركب أمواجها ، السودان لا يحتاج إلى نخب جديدة فقط، بل إلى خيال سياسي جريء يعيد تعريف الممكن، ويربط بين الذاكرة والعدالة، وبين الأرض والمصير ، لقد انتهى زمن الشعارات، وبدأ زمن الفعل، والشعوب تعرف طريقها حتى وإن تأخرت النخبة عن اللحاق بها.