
حين وقّعت حركات دارفور على اتفاق جوبا للسلام في عام 2020، لم تكن البلاد تمضي نحو السلام بقدر ما كانت تتداعى من الداخل. فالدولة السودانية، التي خرجت في شكلها الحديث من رحم الاستعمار، احتفظت بكل أدواته: المحاصصة كبديل للمواطنة، الإقصاء كسلاح سلطوي، وشراء الوقت كوسيلة لتجنّب الانهيار. اتفاق جوبا لم يكن محاولة لحل جذري، بل إدارة موقتة لأزمة متجددة. لم يكن أكثر من صفقة لامتصاص غضب الهامش، عبر حوافز رمزية ومقاعد شكلية، في مقابل تعطيل البندقية ومنح الدولة فرصة لالتقاط أنفاسها قبل الانقضاض التالي.
لكن الذئب حين يلتقط أنفاسه لا يتحوّل إلى حمل، بل يعود إلى طبعه. وهذا ما تفعله الدولة المركزية في كل مرة. تستوعب قادة الحركات في دهاليز البيروقراطية، تُقصّ أجنحتهم، يُعاد تدويرهم داخل أجهزة الاستيعاب والاستبعاد، وينتهي بهم المطاف بلا نفوذ حقيقي، ولا قاعدة جماهيرية، ولا بندقية. ما جرى في الدوحة، وأبوجا، وأسمرا، يتكرر بوتيرة تكاد تكون مقدّسة. الحركة توقّع، تضعف، تُستخدم، ثم تُرمى.
ليس في الأمر مفاجأة. لقد جُرّب هذا النموذج مرات كثيرة، ودائمًا ما تعود الحركات إلى الحرب لا بدافع جديد، بل بدافع إصلاح خلل قديم، أو تصحيح ميزان صفقة لم تكن عادلة يومًا. الأزمة ليست في وجوه الموقّعين، بل في البنية نفسها. فالدولة السودانية لم تُبنَ يومًا على تعاقد اجتماعي جامع، بل تأسست على منطق الامتياز، لا المواطنة. ومنذ عهد الخديوي والإنجليز، تمّ ترسيخ سلطة ثقافية ودينية وإثنية محددة. وبعد رحيل الاستعمار، لم تُخلَ الدولة من هذه البنية، بل تم توطينها داخليًا، عبر نُخب أكثر مهارة في التمويه، وأشد حرصًا على استمرار الهيمنة.
وما نشهده اليوم في بورسودان سوى نسخة أخرى من المشهد ذاته. رئيس من المركز، رئيس وزراء من المركز، وحركات تهتف: أعطونا وزارات، أو نعود إلى التمرد. ولا أحد يبدو وكأنه تعلم شيئًا. فالدولة التي ترفض إعطاء السلطة، تمنح فقط ما يكفي لتأجيل السقوط. تُدير الزمن بمهارة، ثم تتعافى، وتبتلع الجميع مرة أخرى.
المأساة ليست في هذا التكرار وحده، بل في ما يقدّمه الهامش من دماء. أبناء دارفور، سواء اتفقت معهم أو اختلفت، هم الذين دفعوا الثمن الأكبر. بعضهم قضى نحبه، بعضهم شُرّد، وبعضهم يقاتل بلا أفق. وفي الوقت نفسه، كانت النُخب السياسية تعدّ جوازاتها، وتنتقل بأسرها إلى القاهرة أو إسطنبول، بينما أبناء الهامش يشقّون طريقهم إلى الجبهات سيرًا على الأقدام، لا لتحرير وطنهم، بل ليُستَغَلوا من جديد في حروب يشعلها المركز ليحافظ على امتيازاته.
لا جدوى من ترميم هذا البناء؛ فالمشكلة في الأساس نفسه. لا معنى لأي محاولة “توزان” داخل منظومة صُممت على اللاعدالة. الحل ليس في تقاسم السلطة، بل في تفكيك منطق الامتياز من جذوره. لا إصلاح دون تفكيك جهاز الامتياز، لا مساواة دون كسر منطق القرب من الهوية الرسمية، ولا عدالة دون قيام دولة لا تنحاز لدين، ولا إثنية، ولا ثقافة. دولة علمانية، ديمقراطية، قائمة على مبدأ المواطنة وحده.
هذه ليست رغبة حالمة، بل استنتاج ضروري. فقد جُرّب كل شيء: الإصلاح، الحوار، المشاركة، المساومة، وفي كل مرة تُعاد إنتاج الدولة نفسها، بنفس الوجوه، أو بأقنعة جديدة. من يعتقد اليوم أن الحصول على وزارة هو بداية التغيير، يشارك دون أن يدري في إطالة عمر هذا الكيان المستنسخ عن الاستعمار.
النهاية الطبيعية لهذا الطريق ليست سلطة، بل هاوية.
وإذا كان ثمة مخرج، فلن يكون من باب القصر، بل من جذور الخراب.