
مرآة من دم
بعد العثور على زينب، عاد حيّ القلعة إلى أنفاسه، لكن شيئًا في داخله قد انكسر. لم تكن الطفلة وحدها من احترقت في أتون الشائعة، بل احترقت صورة الجماعة التي كانت تعتقد أنها منيعة، حكيمة، منيعة ضد الفتنة.
جلس إسماعيل الصحفي في ساحة المدرسة، يخاطب العشرات من الأهالي الذين تجمّعوا استجابةً لدعوة على فيسبوك بعنوان:”كفى… دعونا نتحدث.”
قال:
– “كل ما عشناه في الأيام الماضية كان انعكاسًا لخوفنا، لا من الآخر، بل من أنفسنا. نحن لم نرَ الحقيقة كما هي، بل كما أراد لنا المحرّضون أن نراها. رأينا الآخر مرآة مشوّهة… والمرآة كانت ملطخة بالكراهية، لا بالدم.”
سُكونٌ أعقب كلامه، قبل أن ترفعه سيدة مسنة تدعى “فاطمة عمر”، وقالت: “حين كنت صغيرة، كانت أمي تأخذني إلى بيت الحاجة علوية كل صباح لتعلمنا الخَبز… لم تسألنا من أين نحن، ولا من نعبد. علمتنا بيدها، وضحكت معنا… ذلك هو الحيّ الذي عرفته.”
هزّ الحضور رؤوسهم، وكأن ستارًا رُفع عن أعينهم. بدأ الأهالي يقترحون مبادرات بسيطة لكن فعالة:
1. جلسات حوار أسبوعية، في المسجد والساحة والمقهى، يحكي فيها كل شخص “قصته”، وكيف أثّر خطاب الكراهية على حياته، أو كاد أن يسلبه من أحبّه.
2. ورشة رسم للأطفال بعنوان “أنا وأنت”، يرسمون فيها أصدقاءهم المختلفين، ويتحدثون عن الأشياء التي تجمعهم، لا تلك التي تفرقهم.
3. حملة “فقط اسألني”، حيث يضع الشباب لافتات صغيرة على صدورهم مكتوب فيها: “لا تفترض… فقط اسألني”، في دعوة لكسر الصور النمطية المسبقة عن الآخرين.
4. إنشاء صفحة فيسبوك موثقة باسم “حي القلعة ضد الكراهية”، تُنشر فيها الحقائق، وتُفنَّد الشائعات بالمصادر، مع تعليقات هادئة وواضحة.
في أحد تلك اللقاءات، جلس “ود السوق” في الزاوية. كان يشعر بالعار، فقد شارك في توزيع منشورات التحريض. لكنه حين سمع قصة شاب آخر، اسمه “محمد جمعة”، اعتُدي عليه لأنه “لم يكن يشبه أهل الحي”، أدرك كم كان قريبًا من ارتكاب خطأ لا يغتفر.
اقترب منه إسماعيل، ووضع يده على كتفه وقال:
– “لا أحد يولد كارِهًا… الكراهية تُتعلّم، وكذلك التعايش.”
تغير ود السوق. بدأ يُشارك في الأنشطة. خصص هاتفه لتوثيق قصص المصالحة، بدلاً من ترويج الكراهية. صار صوته مختلفًا، ونظرته أكثر إنسانية.
في المدرسة، عادت مريم، صديقة زينب. احتضنتا بعضهما، ثم جلستا ترسمان. على الورقة، خطّت زينب بخطها الطفولي:
“الآخر ليس عدوك… الآخر هو أنت في مرآة مختلفة.”