رأي

البرهان يسعى لعقد صفقة مع الدعم السريع وحرق مراكب الحركات: لماذا غضبت فاطمة فضل؟

عباس احمد السخي

في مشهد سوداني يتبدّل فيه الموقف السياسي والعسكري كما تتبدل الفصول، تخرج علينا فتاة تك توك المحجبة، الأنيقة، والهادئة في ظاهرها، لتلقي بحجر ضخم في بركة راكدة. إنها فاطمة فضل؛ الصوت الدارفوري الأنثوي القادم من قلب الصراع، والتي تحولت من أيقونة للتماهي مع معادلات القوة إلى لسان غضب صارخ ضد خيانة الحلفاء وسوء تقدير المواقف.

فاطمة لم تكن مجرد ناشطة على “السوشال ميديا”، بل كانت تُجيد استعمال أدوات الفهم والإقناع وتطويع الهزيمة في خطاب سياسي يبدو عليه التماسك رغم التناقضات. هي لم تكن فقط تبرر هزائم الحركات المسلحة، بل كانت تبرر استمرار تحالف مع المركز، مستندة إلى مبدأ أن اللعبة أكبر من أن تُلعب برصاصة واحدة أو تحالف عابر.

فاطمة الغاضبة في تسجيلها المصور الأخير، والتي لم تُخفِ ألمها ولا ندمها، بدت وكأنها تقول ما لا يجرؤ قادة الصف الأول على التصريح به: “لقد خُدعنا!”. والسبب؟ ما وصفته بتواطؤ المركز، ممثلاً في البرهان، ضد الحركات المسلحة، رغم ما قدمته من تنازلات وتحالفات جادة لخدمة أجندته.

فاطمة، المنحدرة من خلفية دارفورية، عبّرت بصدق عن أزمة جيل كامل ظنّ أن الانخراط في اللعبة المركزية قد يمنح الهامش بعض المكاسب. لكن الحقيقة كانت عكس ذلك تماماً. فبعد أن فشلت الحركات في تحقيق أي اختراق ضد الدعم السريع، وجد البرهان أن التحالف معها لم يعد يُجدي، بل بات عبئاً عليه في لحظة يتهيأ فيها للجلوس مع الدعم السريع إلى طاولة تفاوض محتملة، بعد أن أدرك أن الأخير بات رقماً يصعب تجاوزه أو كسره عسكرياً.

منذ اندلاع الحرب، أجاد مركز السلطة إدارة الصراع عبر تفتيت الهامش وتضخيم تناقضاته. ودارفور، بتعقيدها الإثني والسياسي، كانت بيئة خصبة لذلك. فالبرهان وحلفاؤه سعوا باكراً إلى خلق شرخ عميق بين الدعم السريع والحركات المسلحة، لتعود دارفور ساحة لحرب أهلية داخل الهامش نفسه. وهذا ما حدث بالفعل بعد اكثر من عامين من القتال، إذ وُجهت الحركات إلى الاشتباك مع قوات الدعم السريع لا سيما في معارك الخوي والنهود قبلها معارك المالحة، وقد انتهت جميع هذه المعارك بكوارث عسكرية حقيقية أبرزها مقتل معظم قيادات متحرك “الصياد” بما فيهم القائد الميداني الشهير عبد الله جنا.

كان البرهان، من وجهة نظر ميدانية، يراهن على أن تسحق الحركات المسلحة خصمه اللدود بنفس الطريقة التي سُحقت بها هي على يديه ذات يوم في “قوز دنقو” بمساعدة المركز نفسه. لكنها فشلت، وكانت كل النتائج كانت كارثية.

إثر تلك الهزائم، تغيّر الحساب السياسي في عقل الجنرال. البرهان بات يدرك أن النصر العسكري على الدعم السريع غير ممكن، وأن الخيار الوحيد أمامه هو التفاوض، لكن بأوراق أقل، وخسائر أقل. ومن هنا بدأ مسار “تحلل” تدريجي من الحركات المسلحة، التي كانت قد نُصّبت – شكلياً – حليفاً في الحرب.

عندما بدأت التسريبات حول تشكيل حكومة جديدة بقيادة كامل إدريس، أصر البرهان على استبعاد الحركات منها بذريعة “التكنوقراط”. كان ذلك تمهيداً واضحاً لمرحلة جديدة: الجلوس مع الدعم السريع من موقع بعيدا عن الحركات وأعبائها التي استُنزفت وفقدت بوصلتها.

التسجيل الذي أطلقته فاطمة فضل جاء بمثابة وثيقة إدانة لهذا التخلّي. ما جعلها تدعو للدعم السريع بالنصر وهو خصمها القديم، مؤكدة أن موقفها القديم كان خطأ، وأن الوقوف مع “جيش المركز المتسلط”، كما وصفته، لم يكن خياراً صائباً.

تصريحات المستشار السياسي للجنرال مني أركو مناوي، التي سبقت تسجيل فاطمة، كشفت شعور الحركات بالخديعة. بل أكدت أن هناك أزمة حقيقية في فهم ما جرى ويجري. هذه الحركات التي كانت تعتقد أنها شريك في معادلة القوة، باتت اليوم خارج المعادلة تدريجيا، في وقت يعاد فيه ترتيب أوراق التفاوض بين الطرفين الفعليين على الأرض: الجيش والدعم السريع. في

لقد أشرنا في أكثر من تحليل سابق إلى أن مركز الدولة السودانية لم يكن يوماً صادقاً في إشراك الهامش، بل كان يُجيد استخدامه في معاركه الخاصة، ثم التخلص منه بمجرد تغيّر موازين القوى.

تشير المعطيات الحالية إلى أن البرهان، وبعد أن فشل في إحداث اختراق عسكري ضد الدعم السريع، يتجه الآن نحو صفقة سياسية محتملة مع الدعم السريع. وربما لا يكون الغرض منها إنهاء الحرب كلياً، بل تثبيت نفوذ كل طرف في مناطقه، وتقاسم السلطة لاحقاً بشكل جديد.

اللافت أن البرهان يبدو مستعداً للتخلي عن كل ما تبقى من الحلفاء في سبيل هذه الصفقة. والحركات المسلحة هي أول الضحايا. أما فاطمة فضل، فكانت أول من صرخ علناً بما لم يجرؤ غيرها على قوله: “لقد خُدعنا… ونحن من دفع الثمن”.

غضب فاطمة ليس حادثة معزولة. بل هو مرآة لحالة عامة في الهامش الدارفوري، الذي أدرك متأخراً أن “التحالف مع المركز” لم يكن يوماً ضماناً لأي شيء، وأنه لا سبيل لحماية الذات إلا بإعادة تنظيم الصفوف بعيداً عن لعبة المركز المزدوجة. أما البرهان، فهو الآن يمضي باتجاه صفقة العمر من خلال التخلي عن الحلفاء، وفتح باب التفاوض مع الخصم. صفقة قد تنقذ رقبة المركز، لكنها بالتأكيد ستفضح ما تبقى من سرديات التحالفات المضلّلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!