رأي

الجلابي والخواجة .. مستعمران بلُغتين، وبندقية واحدة

  عمار نجم الدين

في هذا المقال، لا يُستخدم مصطلح “الجلابي” كتوصيف إثني أو جهوي، بل كأداة تفكيكية تشير إلى النخبة الشمالية المتحالفة تاريخيًا مع مركز السلطة في السودان.

المقصود هو تلك الطبقة التي تشكّلت في المنطقة النيلية شمالاً وورثت امتيازات الإدارة الاستعمارية، ثم أعادت إنتاجها بعد الاستقلال عبر مؤسسات الدولة.
الجلابي هو الذي يستخدم لغة الوطن لحماية امتيازاته، ويدين المقاومة المسلحة فقط حين تأتي من الهامش.
ليس كل شمالي “جلابي”، لكن كل جلابي – في هذا السياق – ينتمي (لمنطق ) الدولة الاستعمارية المركزية،

هل السودان دولة استعمارية؟
سؤال لا يُطرح كثيرًا، لأن أغلب المثقفين الذين يحتكرون الميكروفون و القلم و الشاشة اعتادوا أن يروا الاستعمار بعيون خارجية: “الخواجة”، “الإمبريالية”، “الأجندات الدولية”… أما حين يكون المستعمر ابن عمّك، يتحدث لهجتك، ويرتدي جلابية بيضاء ناصعة، ويؤمن بقداسة الجيش الذي أحرق قرى النوبة بدقة بيروقراطية… فإن المصطلح يُطوى ويُمنَع.
نعم، السودان دولة استعمارية.
لكن استعمارها ليس أوروبيًا، بل داخلي، محلي الصناعة. استعمار مركزي بدم خفيف، يبتسم وهو يدوس على الهامش، ثم يدعوك لحوار وطني… برعاية “العساكر”.
ولأن الاستعمار في السودان لَبِسَ جلابية، صار مقاومته تُعتبر خيانة.
صار المثقف الخرطومي، ابن المركز، يُدين كل بندقية لا تُرفع تحت إمرة “القائد العام للقوات المسلحة”، مهما كانت الجرائم التي ارتكبتها هذه المؤسسة نفسها، في الجنوب، وفي دارفور، وفي جبال النوبة، والنيل الأزرق، وفي القيادة العامة!
إنه ذلك المثقف الذي ينام على كتابات إدوارد سعيد، ويستيقظ على تمجيد الجيش.
يخطب عن “العدالة الانتقالية”، ثم يصمت حين يُقصف نازحو دارفور وجبال النوبة و قرى النيل الأزرق بطائرة ميغ سودانية.
يكتب عن “حق تقرير المصير للشعوب”، ثم يصف كل حركة مسلحة بأنها “ارتزاق”.
يعترض على “التدخل الأجنبي من الإمارات”، لكنه لا يفتح فمه عن طيران الجيش القادم من قاعدة سيدي براني او أسوان المصرية.
يرى الأمم المتحدة استعمارًا حين تنتقد الجيش، ويرى فيها “منبرًا إنسانيًا” حين تموّل منظمته غير الحكومية و ينال منها راتبه

.هو ضد الدرهم الإماراتي إذا كان في جيب الدعم السريع، لكنه يصمت إذا دخل حسابه البنكي من مؤسسة إعلامية تموّلها أبوظبي او فائض ربح من الذهب يذهب الى خزينته المركزية .
يرفض “الفنض الاستعماري”، لكنه يقبضه كل أول شهر… بحجة “نحن نُصلح من الداخل”.
ثم يأتي هذا الكائن، بمزاجه الأنجلوسكسوني وهو يكتب “بيانًا ثوريًا” ضد أي حركة مسلحة، ويُهديها هاشتاقًا عريضًا: #ضد_عسكرة_السياسة.
والحقيقة أنه ليس ضد عسكرة السياسة، بل ضد أن تُعسكر السياسة خارج سلاح الدولة المركزية.
هو لا يكره البندقية، بل يكره أن يحملها غير “أولاد المؤسسة”.
لأن جيش المركز عنده ليس مجرد مؤسسة، بل امتداد عرقيّ ونفسيّ لسلطة ثقافية متجذّرة…
جيش الدولة السودانية “الوطنية”، وإن قتلت نصف الوطن.
إنهم أبناء الدولة الاستعمارية المركزية، يدّعون التنوير والديمقراطية، لكنهم يخافون من تفكيك الدولة نفسها، لأنها هي مصدر امتيازهم.
هم لا يريدون سودانًا جديدًا، بل سودانًا محسّنًا: نفس الخريطة، نفس المؤسسات، مع بعض “إصلاحات شكلية”.
لا تنخدع بخطابهم، فهم يستخدمون نفس أدوات المستعمر القديم:
التكفير، التخوين، التلويح بالشرعية، ادعاء حماية الوطن من “الفوضى”،
وتبرير المجازر باسم “السيادة”.
كل من يقف ضد جيش المركز — حتى لو كان من الهامش، ومن ضحايا الطائرات والاغتصاب والحرق — يصبح “مرتزقًا”، “تابعًا للخارج”، “عميلًا لإسرائيل”او عميل أمريكي غربي إمبريالي استعماري .
أي مفارقة هذه؟
الجيش الذي حرق الجنوب صار هو “حامي الوطن”،
ومن رفع البندقية ليوقف الحرق صار هو “العدو”.
هذا ليس فقط انفصامًا سياسيًا، بل اضطراب وجوديّ لمثقفين يعيشون في قلب تناقضهم،
ويريدون منّا أن نشاركهم هذا الجنون،
فنرفع معهم شعار:
“لا لحكم العسكر… إلا إذا كان العسكر هم جماعتنا!”
إنها باختصار “الديمقراطية العسكرية”، أو كما يحبون أن يسمّوها:
“المسار الانتقالي تحت البندقية المركزية”.
لكن هذا المسار هو نفسه المسار الذي أجهض الثورة،
واستعاد دولة الاستعمار،
وحوّل الديمقراطي إلى درع بشري للجلاد.
يا دعاة الديمقراطية المركزية:
لا تبيعونا أخلاقًا معلبة،
ونحن نعرف تمامًا
أنكم لا تكرهون السلاح…
أنتم فقط تكرهون أن لا يكون في يدكم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!