
منذ بدايات الألفية، حين اشتعلت نيران التمرد في دارفور، كانت الحركة الإسلامية في الخرطوم قد أحكمت قبضتها على مفاصل الدولة، وسيرت آلة القتل والتطهير العرقي بأبشع صورها ضد سكان الإقليم فالقُرى أُحرقت، نساء اغتُصبن، أطفال شُردوا، ومئات الآلاف هُجروا قسراً إلى معسكرات النزوح ، كانت الطائرات التي تُلقي البراميل المتفجرة تنطلق من مطارات المركز، والجيوش التي حرقت الأرض تنال الغطاء الكامل من جيش الإخوان، بينما كانت المجازر تُنفذ بدم بارد، تحت أنظار العالم، وبصمت داخلي مخز ، في تلك اللحظة الدامية، وُلدت الحركات المسلحة كصوت مقاومة، وكحلم بديل للكرامة في مواجهة الظلم المركزي الذي مثله جيش الإخوان وتحالف الإسلاميين.
لكن الصورة اليوم تبدو مقلوبة تماماً فها هي ذات الحركات أو فلول منها، تُقاتل جنباً إلى جنب مع جيش الإخوان، وتعيد التحالف مع بقايا الحركة الإسلامية، في مشهد يُصيب الذاكرة الجمعية لأهل دارفور في مقتل ، تحولت بعض الفصائل التي تشكلت على أنقاض المذابح، إلى قوات مشتركة تقاتل ضمن صفوف المركز، وتحرس مؤسساته، وتتبنى سردياته، وتتبرأ من دماء شهدائها، وتشيح وجهها عن معاناة أهلها الذين ما زالوا يعيشون في الخيام، وتحت سياط النزوح.
تتجه الأوضاع في السودان، شيئاً فشيئاً، نحو صدام نهائي لا مفر منه بين جيش الإخوان والحركات المسلحة المتحالفة معه ، صدام لا تحركه فقط المصالح الظرفية، بل تحكمه تناقضات بنيوية، جغرافية، نفسية، وتاريخية، تجعل من استمرار هذا التحالف ضرباً من العبث الأخلاقي والسياسي ، نشأت قيادات جيش الإخوان من الشمال النيلي، حيث تتركز السلطة والثروة والإعلام، بينما جاءت الحركات من قاع التهميش، من دارفور التي لم تنسى بعد حرائقها ، هذا التباين الجغرافي أنتج رؤيتين للعالم وهي واحدة ترى في الآخر مجرد أداة، وأخرى تبحث عن الاعتراف والكرامة والعدالة.
تستمد الحركات المسلحة مشروعيتها من قواعدها الاجتماعية في دارفور ، غير أن هذه القواعد تعيش اليوم تحت سيطرة قوات الدع&م الس&ريع، وهو ما يضع الحركات في وضع معقد ، فهي تقاتل إلى جانب جيش الإخوان الذي يقصف مدنهم بالطيران، وتعادي الدع&م ال#سريع الذي يمسك بالأرض، وتجد نفسها محاصرة بين أمرين أحلاهما مُر ، أبناء الحركات يشعرون أنهم يُستنزفون في معركة لا تخصهم، وأنهم يدافعون عن مركز لم يرحمهم يوماً، بل يُسخر إعلامه وناشطيه ضدهم باستمرار، ويستخدمهم كمجرد أدوات لتوسيع نفوذه، لا كشركاء في مشروع وطني.
فوق ذلك، فإن الإعلام الموجه من قلب المركز يعمل على تصوير الحركات المسلحة كمرتزقة، ووصمهم بالخيانة والعمالة، رغم أنهم يقاتلون في خندقه ، إنها قمة المفارقة أن يُستخدم أبناؤك لمحاربتك، ثم يُدانوا أيضاً باسمك ، إنهم يُحملون وزر حرب لا يملكون قرارها، ويُقدمون كبش فداء لخطاب عنصري يبتزهم من داخل ما يسمى بتحالف سياسي وعسكري واحد.
غير أن المفارقة الأكثر فداحة هي التحالف الجديد المتجدد مع بقايا الحركة الإسلامية ، تلك الحركة التي أوقدت محرقة دارفور، ومارست الإبادة الجماعية، وزرعت الفرقة بين المجتمعات، تخرج الآن من ركام الانهيار، لتجد من بعض هذه الحركات من يمد لها يده تحالف مع الجلاد، مع من لوث الأرض بالدم، وأحرق ذاكرة المجتمعات بنار الكراهية ، كيف لحركة تحرر أن تتحول إلى أداة في يد أعداء شعبها؟ وكيف لقيادات قاتلت طويلاً من أجل الحرية أن تصبح جزءً من آلة الاستبداد نفسها؟ إنها خيانة مضاعفة ، خيانة للذاكرة، وخيانة للمستقبل.
ظنت بعض هذه الحركات أن التحالف مع جيش الإخوان والحركة الإسلامية سيمنحها شرعية الدولة، فإذا بها تفقد شرعية الشعب ، ومع تآكل المشروع وضغط الجماهير، وتعقد الواقع، بات جلياً أن هذه الحركات وصلت إلى مفترق الطرق فإما أن تنحاز إلى شعبها، أو تمضي في طريق الارتزاق والانهيار.
إن ما يجري ليس مجرد تناقض سياسي، بل هو تفكك أخلاقي، وانفصال تام عن جراح المجتمعات التي تشكلت منها هذه الحركات ، فالصدام قادم لا محالة، لأن الجغرافيا لا تكذب، والذاكرة لا تُشترى، والدم لا يُنسى ، وحين يقع الصدام، سيكون أشد على من خانوا ذاكرتهم من أي عدو آخر، لأن التاريخ لا يرحم أولئك الذين وقفوا في الصف الخاطئ من المعركة.
https://www.facebook.com/share/1J84MHkb5L/