
الحلقة الأولى: خشبة المسرح، وصرخة الفقد الأولى
في ذلك الزمن الجميل، في مدينة الفاشر التي تعيش بنصف قلب ونصف حلم، كنا نكبر مثل شجيرات النيم على شرفات المدرسة الثانوية، نغني للحياة رغم الخوف، ونكتب الشعر رغم القحط. كنت وصديقتي الحبيبة صديقة يحيى نحلم أن نغيّر العالم بكلماتنا، أن نهزم البؤس بالقصيدة، وأن نمنح لهذا الوطن جناحين من نور.
كانت صديقة يحيى نجمة بلا منازع، ذات حضور لا يُقاوم، كانت تكتب القصة والشعر، وتفوز دوماً في المسابقات، تتكلم في الإذاعة المدرسية بصوت رخيم يهدهد أرواحنا كل صباح، وكانت رغم صغر سنها مزيجًا نادرًا من الأديبة، والمذيعة، والخطيبة، والزعيمة التي تمشي بيننا كأنها على موعد أبدي مع المجد.
ورثت صديقة كل شيء من والدها يحيى خميس، ذلك الرجل الوقور الذي كان يوقظ فينا حماسًا خفيًا كلما رأيناه يرافقها صباحًا، أو يحضر فعالية لتشجيعها. كان رجلًا نبيلاً بحق، يُعامل كل طالبات المدرسة كأنهن بناته، وكان مصدر فخرها وسندها. لم تكن تخجل من أن تصف نفسها دومًا بأنها “ظل أبي”، تقولها بنبرة فيها محبة، وامتنان، وتعلق لا تخطئه العين.
وفي ظهيرة ذلك اليوم، كنت أجلس في الصفوف الخلفية بين الحاضرين، أتابع صديقة وهي تعتلي خشبة المسرح في مهرجان المدرسة، تلقي قصيدتها الجديدة:
“سواني وسودانية… نبني وطنًا بالأمل والتفاني…”
كانت تتحدث عن ضرورة أخذ زمام المبادرة، عن محاربة الأفكار الهدّامة، عن بناء وطن لا يهاب الريح. وكان في صوتها حماس جارف، لدرجة أني شعرت للحظة بأنها أكبر من عمرها، وكأنها تُحاور الوطن نفسه، لا نحن.
وبينما كانت تصفق لها المدرّسات والطالبات، وصل إلى إدارة المدرسة خبر لم يحتمله أحد. تم اغتيال والدها في طريقه من الطينة إلى الفاشر، على يد جماعة ملثمة قطعت عليهم الطريق، طالبتهم بالمال، ثم صفّتهم بدم بارد، بلا رحمة، بلا نذير. لم يكن يحيى خميس يملك سوى قلبه الطيب، وبعض الأوراق.
أدركت الإدارة خطورة الموقف، كتموا الخبر عنها، خوفًا من أن تنهار أمام الجميع. لكنّ المدينة صغيرة، وقلوب البنات أضعف من أن تحمل كل هذا. سرعان ما انتشر الخبر، تسلل بين الجدران، سال في العيون، وانفجر بالبكاء، ما عدا هي. كانت صديقة وحيدة في عزلتها، كأن زميلاتها تحاشت الحديث معها، خشية أن تنكسر الكلمات أمام فجيعتها.
وحين عادت إلى البيت، ووجدت الحشود، وصمت البيت، ودموع الأم… واجهت الحقيقة. لم تحتمل، سقطت. نُقلت إلى مستشفى الفاشر المرجعي، ودخلت في صمت طويل، لا تصحو منه إلا على كوابيس. حاولنا زيارتها، حاولنا مواساتها، لكنها لم تكن بيننا بعد اليوم.
شخّص الأطباء حالتها بـ”رهاب الحرب”، اضطراب نادر يجعلها تصرخ وتتوتر حين ترى غرباء أو تسمع ضوضاء مفاجئة. لم تعد قادرة على الوقوف وسط الجموع، أو الكتابة، أو حتى الكلام في المذياع. كان الألم أكبر من أن يُروى.
ولم أكن قادرة على نسيانها… حملتها معي حين غادرت إلى كاليفورنيا، كأن صديقتي بقيت في حقيبة يدي، لا تتركني في سفر ولا سكون.